بعيدا عن التلويح به من برلمانيين أوروبيين “كخيار عقابي”: الجزائر تعتبر مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأروبي مسعى حتمي وضروري

*الحياد يحكم خيارات الجزائر الخارجية والصبغة التعاونية مضمون سياستها الخارجية .

تعالت الأصوات في الضفة الشمالية من المتوسط ، للمطالبة بإعادة النظر في اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ورغم أن مطيتهم هي الروابط القوية التي تجمع الجزائر وموسكو، الا ان مطلبهم بمراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي “وكأنه تلويح عقابي “، هو في الأساس هدف ومسعى جزائري، على اعتبار أنه التزام رفعه الرئيس تبون فور وصوله لقصر المرادية الذي قال ان هذا الاتفاق يجب أن يراجع” بندا بندا” ، هذا الاتفاق الذي يلوّحون به هو أصلا اتفاق يحتاج إلى المراجعة من الطرف الجزائري أولا لأن فوائده تميل فقط إلى الضفة الشمالية وهو اتفاق بعيد كل البعد عن اتفاقيات شراكة وفق قاعدة “رابح رابح”…

فايزة سايح

أطلّ علينا 17 برلمانيا أوروبيا برسالة إلى رئيس المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، يطلبون فيها مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والجزائر، والتي دخلت حيز التنفيذ منذ 17 عاماً، وذلك وفق ما نقله موقع “أراب نيوز ” الفرنسي.
معلّلين ذلك بعلاقة الجزائر مع روسيا، ويقود حملة النواب الموقّعين من “فرنسا، ليتوانيا، المجر، إستونيا، السويد، بلغاريا، فنلندا، بولندا، الدنمارك وسلوفاكيا، أندريوس كوبيليوس”، رئيس وزراء ليتوانيا سابقاً. ورغم هذا يعترف التقرير الفرنسي أنّ “الحكومة الجزائرية أظهرت منذ بداية الحرب في أوكرانيا، مراراً حيادية موقفها من خلال إنشاء شراكات جديدة مع أوروبا مع الحفاظ على علاقاتها مع روسيا”.

وكانت الجزائر، مثل العديد من الدول الإفريقية، امتنعت عن التصويت على قرار الأمم المتحدة الصادر في 2 مارس الماضي، والذي يطالب روسيا بـ “التوقف الفوري عن استخدام القوة”.

وقبل أسابيع قليلة، طلبت الدولة الجزائرية الانضمام إلى البريكس، وأيّد ترشيحها بشدّة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هذه العلاقة الاستراتيجية التي لها مرتكزات ودعائم تاريخية و تربط بين الجزائر وموسكو بدأت تثير حفيظة الأروبيين على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، والتي كان من تداعياتها أزمة طاقة تلقي بظلالها على القارة العجوز، في محاولة لجرّ الجزائر إلى دائرة الصراع وهو ما تنأى عنه الجزائر التي تحتكم إلى الحياد استنادا إلى مبادئ سياستها الخارجية .

التعاون والحياد..مبادئ تحكم السياسة الخارجية الجزائرية

تقوم مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية على عدة مبادئ وهي التي تحكم علاقاتها الخارجية مع باقي الدول، فقد تبلورت مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية منذ بيان ثورة نوفمبر 1954، وعبر محطات أخرى طيلة سنوات الكفاح المسلح، ثم ترسّخت أكثر خلال فترة الاستقلال عبر دساتير الجمهورية، ومن خلال اجتهادات وممارسات صناع القرار.

وقد حمل بيان نوفمبر الذي يعدّ بمثابة مرجعية تتوارثها الأجيال ” وقد تطرقت شرشال نيوز في مقال سابق إلى بيان أول نوفمبر كمرجعية تتوارثها الأجيال…” إلى أولى ملامح مبادئ السياسة الخارجية، على غرار توجّهات الوحدة الإقليمية، ومناهضة الامبريالية، ودعم حركات التحرّر، والعمل في إطار ميثاق الأمم المتحدة، كما تمرّست الدبلوماسية الجزائرية واستلهمت مبادئها من مؤتمر باندونغ ومبادئه العشرة” التي تحكم العلاقات بين الدول، من بينها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو التعرض لها، عدم استخدام أحلاف الدفاع الجماعية لتحقيق مصالح خاصة لأيّ من الدول الكبرى و عدم قيام أي دولة بممارسة ضغوط على دول أخرى.

إلى جانب اعتماد الحل السلمي لجميع الصراعات الدولية، وفقًا لميثاق الأمم المتحدة يضاف إلى هذا تعزيز المصالح المشتركة والتعاون المتبادل، واحترام العدالة والالتزامات الدولية. وكذا ابتعاد دول حركة عدم الانحياز عن التكتلات والصراعات بين الدول الكبرى.

“الحياد الإيجابي” يحكم علاقات الجزائر وموسكو

ومن خلال التطرّق لمبادئ السياسة الخارجية الجزائرية يتّضح لنا مضمون السياسة الخارجية الجزائرية التعاوني، خاصة وأن كل الدساتير حسمت في خيارات الجزائر الخارجية، وانتماءاتها الهوياتية، وأطرها المتعددة الأوجه، السياسية، الاقتصادية، الأمنية، الثقافية، ومضامينها السلمية، التعاونية، و غيرالتدخلية.

هذه النظرة العاجلة لمبادئ السياسة الخارجية الجزائرية توضّح طبيعة العلاقات التي تحكم الجزائر مع دول العالم بما فيها العلاقات مع روسيا ومن ثمّ نفهم أن الجزائر لا تنحاز لأي طرف وهي تلتزم بـ” الحياد الايجابي”، مع كل الأطراف وعلاقتها تقوم على التعاون، ومن ثمّ يتضح ان رسالة البرلمانيين الاوروبيين هي بمثابة “تدخل سافر” في شؤون الجزائر، على اعتبار أن العلاقات الخارجية بين الجزائر وشركائها هو أمر سيادي لا علاقة للاروبيين به ولا لغيرهم .

مضمون اتفاق الشراكة بين الجزائر واوروبا

من جانب آخر تطرّقت رسالة البرلمانيين الاوروبيين في شطرها الثاني إلى ضرورة مراجعة اتفاق الشراكة مع الجزائر، هذا المطلب الذي تلوح به الأطراف الأوروبية هو في الأساس مسعى جزائري في عهد الرئيس تبون الذي طالب بمراجعة الاتفاق بندا بندا بالنظر إلى كمّ الفوائد الذي يجنيه كل طرف..وهو في غالب الأحيان ان لم نقل كلها تميل الى الضفة الشمالية على حساب الجزائر.

يذكر أن السياق الزمني الذي عقد فيه الاتفاق لم يكن لصالح الجزائر التي كانت تبحث مع بداية الألفية الثالثة عن الخروج من عزلتها الاقتصادية بسبب الأزمة السياسية والأمنية التي عاشتها في تسعينيات القرن الماضي، هذه الظروف حسب عدد من المحللين جعل الجزائر توقّع على الاتفاق من موقع ضعف لا قوة.

ونصّ اتفاق الشراكة على التفكيك التدريجي للرسوم الجمركية عبر مراحل بدأت عام 2007 بنسبة 20 في المئة، لتمسّ أكثر من ألف منتج، لكن الخسائر المتوالية التي تكبدتها المؤسسات الجزائرية، ومعها الاقتصاد، جعلت الحكومة تطالب كل مرة بتأجيل تطبيق المراحل المتوالية من التفكيك الجمركي، وقُدّم آخر طلب عام 2017.

اتفاق الشراكة بين الجزائر وأوروبا..”البطة العرجاء”

بلغة الأرقام وإن كانت غير رسمية ، فقد تكبّدت الجزائر خسائر بنحو 30 مليار دولار منذ 2005، لا سيما جراء عمليات التفكيك الجمركي وبقاء حركة السلع والبضائع في اتجاه واحد من أوروبا نحو الجزائر.

وحسب عدد من الخبراء فإن من أسباب عدم استفادة الجزائر من اتفاق الشراكة وقتها كان ضعف اقتصادها الذي لا يملك الوسائل الكافية لمنافسة الاقتصاد الأوروبي، ما جعل الميزان التجاري خارج المحروقات يصبّ في صالح تكتُّل القارة العجوز،.

وفضلاً عن ذلك، خلّف الاتفاق عجزًا فاق 700 مليار دينار من الإيرادات الجمركية الجزائرية خلال الفترة نفسها، وعلى مدى 15 سنة (2003-2018)، انتقلت الصادرات الجزائرية خارج المحروقات الموجّهة للاتحاد الأوروبي من 344 مليون دولار سنة 2003 (سنتان قبل تنفيذ الاتفاق) إلى 889 مليون دولار سنة 2018، لكن الجزائر كانت تطمح، من خلال الاتفاق، إلى ترقية صادراتها خارج المحروقات الموجّهة لأوروبا وإلى رفع الاستثمارات الأوروبية في الجزائر، مع الإشارة إلى أنّ المادة الأولى من الاتفاق تنصّ على “تطوير المبادلات وضمان علاقات اقتصادية واجتماعية متوازنة بين الأطراف وتحديد شروط مناسبة للتحرير التدريجي لتبادل البضائع والخدمات ورؤوس الأموال”.

من جانبها، أكّدت الغرفة الجزائرية للتجارة والصناعة في وقت سابق أنّ “ميزانية هذا الاتفاق أبانت بلغة الأرقام عن خسارة جبائية قدرها ملياري دولار سنويًا، إضافة إلى خسائر أخرى منها الأضرار الجانبية التي تتطلب إعادة تأطير”، مؤكدة أن الاتفاق “لم يتفاوض بشأنه كما ينبغي” منذ البداية.

من جهته، أكّد الخبير الاقتصادي عبد الحميد برشيش أنّ “الميزان التجاري جدّ سلبي في الجزائر، إذ أنّ اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي لم يسفر عن أي استثمار أجنبي مباشر، الذي يكاد ينعدم تمامًا، فلا مناصب عمل ولا نمو اقتصادي”.

علما انه في عام 2020 صدّرَت الجزائر ما قيمته 11.4 مليار دولار نحو أوروبا، وأغلبه من المحروقات، لكن في الوقت ذاته استوردت ما قيمته 13.5 مليار دولار من دول الاتحاد، وهو رقم كان أكثر بكثير في السنوات السابقة قبل أن ينخفض في الأعوام الأخيرة بعد لجوء الحكومة الجزائرية إلى تقييد الاستيراد عبر نظام الرخص.

يُشار أيضا أن خلال فترة إبرام الاتفاق كانت وعود بإنشاء “منطقة ازدهار مشتركة”، إلا أن ذلك لم يتحقق للجزائر التي تحوّلت إلى سوق لسلع الاتحاد الأوروبي الذي كان الرابح الوحيد في هذا الاتفاق، وهو ما جعل الجزائر تطالب سنوياً بتأجيل العمل بهذا الاتفاق.

من هذا المنظور يصير اتفاق الشراكة بين الجزائر وأوروبا أشبه بـ” البطة العرجاء ” على اعتبار أن الاتفاق لم يقدّم أية قيمة مضافة للاقتصاد الجزائري وكل الأرباح والفوائد كانت لصالح الضفة الشمالية للمتوسط.

” بندا بندا “.. الرئيس تبون يطالب بمراجعة الاتفاق

في 31 أكتوبر 2021، أمر رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الحكومة بإعادة تقييم اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي “بنداً بنداً وفق نظرة سيادية، ووفق مبدأ رابح-رابح” ،وحسب الرئيس تبون، فإن مراجعة الاتفاق يجب أن تراعي مصلحة المنتج الوطني لخلق نسيج صناعي ومناصب شغل.

وهذه ليست المرة الأولى التي تطالب فيها الجزائر بمراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ففي ديسمبر 2020 قالت الجزائر على هامش أشغال الدورة 12 لمجلس الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، إن الأخير لا يعارض مراجعة الاتفاق، وله إرادة للحوار حول هذا الملفّ. وأشار وقتها إلى أن الجزائر تطالب بمراجعة للاتفاق توازن بين مصالح الطرفين.

ورغم أن دول الاتحاد الأوروبي في السنوات الماضية فضّلت التهرّب من مراجعة اتّفاق الشراكة مع الجزائر، رغم الدعوات العديدة التي قدّمتها الجزائر، لكونها الطرف المستفيد من هذا الاتفاق إذ تأتي 60 بالمئة من واردات الجزائر من أوروبا، وفق إحصائيات غير رسمية.

هذا الخطاب الأوروبي شهد تغييرات واضحة هذا العام، ففي الخامس من سبتمبر الجاري وعلى لسان رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال عقب محادثات جمعته بالرئيس تبون قال نعتبر أن اتفاق الشراكة إطار يجب أن يُضفِي تحسينات وفق الإرادة المشتركة، من هنا وهناك، لتحديد الأولويات المشتركة خدمة لمصالح الطرفين.

وأضاف أن الجزائر والاتحاد الأوروبي لهما طموح مشترك لتحقيق الاستقرار والأمن والازدهار، معربا في الوقت ذاته عن تفاؤله الشديد بتطوير شراكة أقوى وأصدق تؤدي إلى نتائج ملموسة لصالح الجزائر والاتحاد الاروبي على حد سواء.

هذا التغيير في مواقف أوروبا له عدة أسباب منها بروزه عقب الأزمة الروسية الاوكرانية، وسعي أوروبا إلى الغاز الجزائري كان من بين الأسباب التي دفعتهم إلى تقديم استعدادات لمراجعة اتفاق الشراكة، على اعتبار أن الجزائر مصدر مهم للغاز بعد روسيا والنرويج، وبالتالي فهي أحد أهم المصادر البديلة لتعويض الغاز الروسي .، إضافة إلى أن الجزائر أصبحت في موقع تفاوضي أقوى خاصة بقرار الرئيس تبون مراجعة الاتفاق بندا ببند، وبحكم توجّه الجزائر إلى إقامة علاقات متعددة وتنويع شركائها في مختلف قارات العالم ، الى جانب طرحها لطلب الانضمام “لتكتل البريكس” كتكتل بديل للشراكة مع الاتحاد الأوروبي الذي لم تجْنِ منه الجزائر اي منافع بل كانت القارة العجوز هي الطرف الأوحد المستفيد، رغم مرور تقريبا عقدين من الزمن على دخول اتفاق الشراكة الجزائري الأوروبي حيز التنفيذ.

وهو ما يجعل من مسعى المراجعة والتعديل الذي اختارته الجزائر كمسلك سيادي ضروري وحتمي حتى ترقى العلاقة إلى مرحلة الشراكة الفعلية التي يحكمها مبدأ الربح لجميع.

فايزة سايح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى