آخر الأخبار

بين الفعل الاستراتيجي والضجيج الدبلوماسي… الجزائر تَقُودُ والمغرب يناور

مهدي الباز

يشهد النظام الإقليمي الإفريقي تحولات سريعة وديناميكية، متأثراً بالنسق الدولي الراهن الذي يتسم بمزيد من الحدة والتأزم خلال السنوات الأخيرة، وبالعديد من العوامل، على رأسها العوامل الجيوسياسية. في ظل هذه التحولات، تبرز الجزائر كدولة فاعلة في النظام الإقليمي الإفريقي، بحكم مكانتها الجيوسياسية كقوة إقليمية، ورائدتها في حل الأزمات وفض النزاعات، وتكريس مبدأ التسوية السلمية لمختلف الصراعات. لقد أثبتت الجزائر على الدوام أنها الجهة الأكثر ثقة في لعب دور الوسيط، والأكثر توازناً نتيجة عدم انحيازها لأي طرف، وهو مبدأ أساسي في دبلوماسيتها، ما أكسبها احترام الفواعل الإقليمية والدولية، وعلى رأسهم القوى الكبرى.

ما يجري اليوم في الفضاء الإفريقي من تحركات دبلوماسية رصينة للجزائر، يعكس خبرتها في مجال السلم والأمن، ويؤكد دورها كأحد مؤسسي التكتل القاري الذي يمثل صوت الوحدة الإفريقية. وقد حاولت بعض الأطراف التأثير على الفعاليات التي تحتضنها الجزائر، لكنها لم تستطع فرض إرادتها، إذ أن التحركات المعادية غالباً ما تكون خدمة لأجندات خارجية، أبرزها “الكيان الصهيوني”، الذي يسعى للتوغل في قلب القارة.
لكن الجزائر، بفضل قوتها الدبلوماسية وشراكتها مع القوى الإفريقية، وضعت حداً لكل المناورات، كما يتضح من حادثة طرد ممثلي الكيان الصهيوني خلال القمة الإفريقية الـ36 في أديس أبابا عام 2023.

تتمتع الجزائر بكل مقومات الدولة الوطنية والسيادية، وتعمل دائماً وفق الشرعية الدولية، داخل الإطار القانوني والمؤسساتي، بعيداً عن كل الأطر المشبوهة، وهو ما يعكس قوة شرعيتها الدبلوماسية، في مقابل النظام المغربي “المخزني”،الذي يفتقد الشرعية والمشروعية معا، ويحاول من حين لآخر خلق إنجازات دبلوماسية مزعومة تغطي عن فشله في فرض رؤيته دون أي سند أو شرعية.

المؤتمر الدولي حول جرائم الاستعمار في إفريقيا

برزت الجزائر مؤخراً كأحد أقوى الأصوات المنددة بالجرائم المرتكبة في حق شعوب القارة الإفريقية، من خلال احتضانها المؤتمر الدولي حول جرائم الاستعمار في إفريقيا. جاء هذا المؤتمر تنفيذاً لموضوع عام 2025 للاتحاد الإفريقي: «العدالة للأفارقة والأشخاص المنحدرين من أصل إفريقي من خلال التعويضات»، بعد أن صادقت عليه القمة الإفريقية في قرار 903 (فيفري 2025) بناءً على مبادرة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.
يمثل هذا المؤتمر إرادة الدول الإفريقية المناهضة للاستعمار، ويعكس رمزية قوية بالنسبة للجزائر التي أقيم على أرضها، وهي أرض الثوار التي احتضنت قادة الحرية، وعلى رأسهم الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا.
ويعد المؤتمر مسألة ذاكرة وكرامة لأجيال حملت إرث الاستعمار المؤلم، ويسعى إلى تعزيز التضامن بين الدول المتضررة من الاستعمار، وإحداث تغيير قانوني يجعل الاستعمار وممارساته جريمة دولية يمكن مساءلة مرتكبيها وتعويض ضحاياها.

الدورة الثانية عشرة لندوة وهران حول السلم والأمن في إفريقيا

يعتبر “مسار وهران” حدث دبلوماسي بارز في القارة الإفريقية؛ فهو منتدى قاري سنوي أُطلق بمبادرة جزائرية عام 2013؛ ليكون منصة دائمة للتشاور والتنسيق بين الدول الإفريقية حول السلم والأمن والسياسات المشتركة، مع هدف تشكيل صوت إفريقي موحد في الهيئات الدولية الكبرى، وعلى رأسها مجلس الأمن.

استضافت الجزائر الدورة الثانية عشرة من “مسار وهران” في 1 و2 ديسمبر 2025 ، في سياق إقليمي ودولي جد مضطرب و متأزم. أكدت الجزائر من خلال هذا الحدث التزامها كدولة رائدة ومسؤولة تجاه القارة، مما يعزز مكانتها الدولية والإفريقية ويقوي الثقة فيها بين الدول الإفريقية، ويبرز قدرتها على الجمع بين الشرعية الإقليمية والدبلوماسية، مع الالتزام بمبادئ التضامن الإفريقي.

حضور قاري ودولي غير مسبوق

شهدت فعاليات الجزائر الافريقية مشاركة رفيعة المستوى و غير مسبوقة في مستوى التمثيل الدبلوماسية، تمثلت في حضور رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، السيد محمد علي يوسف، لأول مرة منذ إطلاق مسار وهران، وهو حضور يحمل دلالات سياسية واستراتيجية بالغة الأهمية، ويعكس الاعتراف بالأثر المتزايد للمؤتمر في صياغة قرارات السلم والأمن الإفريقي.

كما شمل الحضور وزراء خارجية من دول مثل كوت ديفوار وبوتسوانا وتوغو ورواندا وناميبيا وأنغولا والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية وتونس، بالإضافة إلى نواب وزراء خارجية من غانا وليبيريا والصومال وسيراليون ومصر وجنوب إفريقيا.
أضف إلى ذلك المشاركة الدولية الرفيعة من مفوض السلم والأمن للاتحاد الإفريقي، الأمين العام المساعد للأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام، نائب الأمين العام للأمم المتحدة، المبعوث الأممي لإسكات البنادق، والمبعوثة الخاصة البرتغالية لمنطقة الساحل.

تمثل هذه التركيبة الإجماع القاري والدولي على الدور الريادي للجزائر، وتكشف عن حجم الثقل المؤسساتي والدبلوماسي الذي تتمتع به فعالياتها.

المغرب… يغرد خارج السرب الافريقي وبتوقيت استفزازي

على العكس، نظم المغرب في الرباط “المؤتمر الأول للضحايا الأفارقة للإرهاب”، تحت إشراف وزير خارجيته ناصر بوريطة، بمشاركة مسؤول أممي مؤقت، Alexandre Zouev، الأمين العام المساعد بالنيابة لمكافحة الإرهاب، وهو تمثيل رمزي يفتقد لأي وزن دبلوماسي حقيقي.

على المستوى الإفريقي، اقتصر الحضور على وزراء من دول تعيش أزمات سياسية وتفتقد الى الشرعية الدستورية،مثل مالي، ما يقلل من أي شرعية قارية للحدث ، ويكشف محدودية تأثيره، ويضعه في خانة المبادرات الفردية التي تفتقر إلى التفويض الرسمي.

الفارق الواضح بين دبلوماسية الجزائر وتهريج المغرب

يتضح الفارق بين الجزائر والمغرب من خلال طبيعة وشرعية الفعاليات والدبلوماسية المنتهجة. فالجزائر تعتمد على دبلوماسية ناضجة ومؤسساتية، تتحرك ضمن تفويض رسمي من الاتحاد الإفريقي، مؤطرة بشراكات أممية، وبمشاركة واسعة على أعلى المستويات، بما في ذلك حضور وزاري واسع ومشاركة رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي لأول مرة، إضافة إلى كبار مسؤولي الأمم المتحدة. هذا النهج يمنح الجزائر ثقلاً سياسياً حقيقياً وتأثيراً دائماً في هندسة قرارات السلم والأمن على مستوى القارة، ويعكس انسجامها التام مع اختصاصها في ملفات السلم والأمن عبر مسار وهران.

على النقيض، تتحرّك الرباط ضمن مبادرات فردية ذات طابع دعائي تهريجي، خارج أيّ تفويض قاري، بحضور محدود من أنظمة غير معترف بها، وتمثيل أممي مؤقت، وتنظيم متزامن مع فعاليات الجزائر دون أي غطاء مؤسسي، يتّضح أنّها مناورة مخزنية للتشويش على ما تقوم به الجزائر.

هذا الإطار يفتقر إلى المشروعية والاعتراف القاري، ويعجز عن تحقيق أثر استراتيجي ملموس، ليكشف محدودية شرعيته مقارنة بالدور المهيمن والموثوق للجزائر، التي تحظى باعتراف أعلى هيئة تمثل القارة، الاتحاد الإفريقي.

بهذه المبادرات المتتالية، تكرّس الجزائر إرثها القيادي والتاريخي في إفريقيا، باعتبارها دولة قيادية تضع مصالح القارة واستقرارها فوق الحسابات الضيقة. 
إنّ استمرارها في قيادة الحوار الإفريقي حول السلم، والذاكرة، والعدالة، يجعل منها صوت إفريقيا الموثوق، في عالم يسوده الاضطراب ويبحث عن توازن جديد مبني
على السيادة والشرعية، والاحترام المتبادل.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى