آخر الأخبار

المُختصّ في التاريخ العسكري ودراسات الدفاع الدكتور توفيق هامل يكتب لشرشال نيوز عن: السيادة، الاستقلال الاستراتيجي، عدم الانحياز والبعد الدولي لروح نوفمبر

إعداد: د. توفيق هامل – دكتور في التاريخ العسكري ودراسات الدفاع، أستاذ-باحث ومستشار

الدكتور توفيق همال: متخصّص في الفكر الاستراتيجي والسياسات الدفاعية، يهتم بدراسة التحولات الأمنية، والعلاقات المدنية–العسكرية، وتاريخ الحروب والتحليل الجيوسياسي. يدرّس في مجالات الأمن والدفاع والعلاقات الدولية، وله العديد من الدراسات والمنشورات حول العقيدة العسكرية، والسياسة الخارجية، والرهانات الجيوستراتيجية المعاصرة

ملخص المقال الموسّع

يستعرض هذا المقال بصورة تحليلية نقدية العلاقة العميقة بين ثورة أول نوفمبر والسياسة الخارجية الجزائرية، بوصفها علاقة استمرارية فكرية واستراتيجية تربط بين لحظة التحرر الوطني وبناء الدولة الحديثة. ينطلق التحليل من فرضية أساسية مفادها أنّ الثورة لم تكن مجرّد حدث تاريخي لتحرير الأرض، بل كانت تأسيسًا لوعي سياسي جديد يقوم على السيادة الكاملة، ورفض التبعية، واستقلال القرار الوطني في مواجهة القوى الكبرى. ومن هذا الوعي وُلدت، بعد الاستقلال، مقاربة جزائرية متميّزة للسياسة الدولية تُترجم اليوم في مفهوم الاستقلال الاستراتيجي، أي القدرة على ممارسة الحرية في القرار والتعاون دون الارتهان لأي محور أو وصاية.

يُبيّن المقال أنّ هذا المفهوم الحديث ما هو إلا الامتداد الطبيعي لروح نوفمبر، التي ربطت منذ البداية بين الكرامة الوطنية والمكانة الدولية، بين النضال الداخلي والشرعية الخارجية. فكما خاضت الجزائر معركة التحرّر بالسلاح ضد الاستعمار، خاضت بعد الاستقلال معركة من نوع آخر في الساحة الدبلوماسية، ساعية إلى ترسيخ حضورها المستقل في النظام الدولي عبر مبدأ عدم الانحياز النشط، الذي لا يعني الحياد السلبي، بل المشاركة الفاعلة في صياغة توازنات عالمية جديدة قائمة على العدالة والمساواة بين الشعوب.

يركّز المقال على تطوّر الفكر السياسي والدبلوماسي الجزائري منذ مؤتمر باندونغ (1955) وحركة عدم الانحياز (1961) إلى مرحلة ما بعد الحرب الباردة والعولمة، مبرزًا كيف تمكّنت الجزائر من الحفاظ على خطّها المستقل رغم التحوّلات الجذرية في البيئة الدولية. ويُظهر أنّ المبادئ التي أرساها بيان أول نوفمبر – السيادة، الوحدة، العدالة – ظلت تشكّل المرجعية الأخلاقية والسياسية للدولة في كل مراحلها، من دعمها لحركات التحرّر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إلى مواقفها الراهنة من أزمات الجوار في الساحل وليبيا وفلسطين.

في النهاية، يخلص المقال إلى أنّ روح نوفمبر لم تفقد فعاليتها التاريخية، بل تحوّلت إلى منظومة فكرية حيّة تُنظّم علاقة الجزائر بذاتها وبالعالم. فالاستقلال الاستراتيجي، وعدم الانحياز، والدفاع عن السيادة الوطنية ليست شعارات ظرفية، بل امتدادٌ طبيعيٌّ لفلسفة الثورة التي أرادت أن تجعل من الجزائر فاعلاً حرًّا ومسؤولًا في النظام الدولي. بذلك، يُقدّم المقال قراءة متكاملة تُبرز كيف أصبحت ثورة نوفمبر مرجعية دائمة للفكر الاستراتيجي الجزائري، وبوصلة أخلاقية لتوجيه سياستها الخارجية في عالم مضطرب ومتغيّر.

تمهيد

منذ اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، لم تكن السيادة في التصور الجزائري مفهوماً قانونياً فحسب، بل كانت تجربة تاريخية ومعيارًا وجوديًا لتحديد معنى الحرية ذاتها. فقد ارتبطت الثورة منذ بدايتها بفكرة الاستقلال التام عن كل وصاية، داخلية كانت أم خارجية، وهو ما جعلها ثورة مزدوجة: تحررًا وعيًا. فالتحرر لم يكن تحرير الأرض من الاستعمار فحسب، بل كان أيضًا تحرير الإرادة من الخضوع، والعقل من التبعية، والقرار من الوصاية. ومن هذا المنطلق، تبلور عبر الزمن مفهوم “الاستقلال الاستراتيجي” كترجمة حديثة لروح نوفمبر، أي بوصفه استمرارًا للمبدأ الثوري ذاته في إدارة العلاقات الدولية بعد الاستقلال

هذا الوعي السيادي لم يكن مجرد امتداد لروح المقاومة، بل تطور إلى عقيدة سياسية ودبلوماسية متكاملة. فمع مرور الزمن، شكّلت الثورة أساساً لسياسة خارجية تتميز بالتمسك بالسيادة، والانفتاح المتوازن على العالم، ورفض الانحياز لأي محور. وقد سمح هذا المنهج للجزائر بأن تبقى فاعلاً مستقلاً في النظام الدولي، حاضرة في القضايا الكبرى دون أن تكون تابعة لأي قوة. فالسيادة التي انتُزعت بالسلاح تحوّلت إلى فلسفة حكم، والحرية التي دُفِع ثمنها بالدم أصبحت مبدأً ينظّم علاقة الدولة بمحيطها. بذلك، يمكن القول إنّ البعد الدولي لروح نوفمبر هو الوجه الحديث لفكرة التحرر الوطني، وهو الذي يفسر استمرارية “الخط النوفمبري” في السياسة الجزائرية إلى يومنا هذا

1. نوفمبر كبداية وعي سيادي جديد

حين أطلقت جبهة التحرير الوطني بيانها في الأول من نوفمبر، كانت تعي أن معركة التحرير ليست فقط عسكرية، بل فكرية ووجودية. فقد أعلن البيان عن رفض نهائي لأيّ شكل من أشكال التبعية، محدداً هدف الثورة في “تحقيق السيادة الوطنية والوحدة الترابية في إطار المبادئ الإسلامية والعدالة الاجتماعية”. هذا التصور، في عمقه، لم يكن مجرد مطلب استقلال سياسي، بل كان إعلاناً عن ولادة وعي جديد يرى أنّ السيادة لا تُستعار من الخارج، بل تُنتزع بالقرار الحر. وهكذا، ارتبط مفهوم الدولة الجزائرية منذ بدايتها بفكرة الإرادة المستقلة. ومع مرور السنوات، تحوّل هذا الوعي الثوري إلى الأساس الذي ستُبنى عليه العقيدة الدبلوماسية بعد الاستقلال: فكما حررت الجزائر نفسها من السيطرة العسكرية، وجب عليها أن تحرر قرارها من السيطرة السياسية والاقتصادية

لقد تجلّى هذا الوعي في أولى الممارسات السياسية بعد الاستقلال، حين رفضت الجزائر أي وجود عسكري أجنبي على أراضيها، وأصرت على أن يكون جيشها الوطني الشعبي وحده الضامن لسيادتها. كما رفضت الانضمام إلى أي تحالف عسكري أو محور أيديولوجي، مؤكدة أنّ استقلال القرار الوطني هو امتداد للحرية التي دفعت ثمنها الأمة غاليًا. بذلك، أصبح أول نوفمبر ليس مجرد لحظة انفجار ثوري، بل نقطة انطلاق لفلسفة دولة ترى في السيادة قاعدة وجودها واستمرارها

2. الثورة كمشروع لبناء الدولة والسياسة الخارجية كاستمرارية لها

لم تكن الثورة الجزائرية حركة انفجار شعبي عفوي فحسب، بل كانت مشروعًا استراتيجيًا لبناء دولة ذات رؤية، وهو ما يفسّر الطابع المنظّم والمؤسسي الذي تميزت به منذ بدايتها. فالبيان الأول، إلى جانب كونه إعلانًا للثورة، كان أيضًا تصورًا للدولة القادمة. وقد تجسّد هذا التصور في ثلاثة أبعاد مترابطة: التحرير الوطني، بناء الدولة المستقلة، والانخراط الفاعل في النظام الدولي الجديد

فخلال سنوات الكفاح، عملت جبهة التحرير الوطني على إرساء شبكة دبلوماسية فعالة عبر وفودها الخارجية في القاهرة وتونس والرباط ونيويورك، مستفيدة من سياق عالمي اتجه نحو تصفية الاستعمار. ومن خلال الدعم الذي تلقته الثورة من مؤتمر باندونغ (1955) ومن حركة التحرر الإفريقية والآسيوية، أدركت الجزائر أنّ معركتها جزء من حركة تاريخية أوسع. هذا الإدراك العميق جعلها تفهم مبكرًا أنّ استقلالها الحقيقي لن يكون كاملاً إلا إذا كان جزءًا من استقلال جماعي للشعوب المستضعفة. وهكذا، وُلد البعد الدولي لروح نوفمبر كامتداد طبيعي لفكرها التحرري

وبعد الاستقلال، واصلت الدولة الجديدة نفس المسار. فأسّست لسياستها الخارجية على مبدأ عدم الانحياز الفعّال، وتبنّت خطابًا داعمًا للعدالة الدولية، مدافعة عن حقوق الشعوب المستعمَرة، ومؤكدة أن استقلال الجزائر لا يُقاس فقط بحدودها السياسية، بل بقدرتها على التأثير الأخلاقي في العالم. بهذا المعنى، أصبحت الدبلوماسية الجزائرية مرآة للثورة، تُعبّر بلغة السياسة عن ما عبّر عنه المجاهدون بلغة البندقية

3. من الذاكرة إلى الهوية: كيف تحوّل الحدث إلى سردية وطنية

بعد 1962، كانت الجزائر بحاجة إلى ما يوحّدها، فوجدت في نوفمبر مرجعيتها الأعمق. لم تعد الثورة مجرّد فصل من التاريخ، بل أصبحت الذاكرة المؤسسة للأمة والدولة. وقد تمثّل هذا التحول في إعادة تأويل الثورة باعتبارها لحظة ولادة جماعية للشعب الجزائري، أي تلك اللحظة التي اندمج فيها الوعي التاريخي بالوعي السياسي، فأنتج هوية جديدة. في المدارس والجامعات، وفي الإعلام والخطاب الرسمي، غدت روح نوفمبر منظومة فكرية تُدرّس وتُستعاد وتُمارس. لم يعد الهدف مجرد تمجيد الماضي، بل تحويله إلى طاقة رمزية تُغذّي الاستمرارية الوطنية

هذه الذاكرة لم تقتصر على الداخل، بل كانت لها أيضًا وظيفة دبلوماسية. فالدولة الجزائرية استخدمت سردية نوفمبر كأداة لتأكيد مصداقيتها الدولية: فهي ليست دولة وُلدت بقرار إداري، بل دولة خرجت من رحم تضحيات شعبها. هذا البعد منحها مكانة أخلاقية فريدة في العالم الثالث، مكّنها من لعب دور الوسيط النزيه في النزاعات الإقليمية، ومن الدفاع عن العدالة الدولية من موقع الشرعية التاريخية. بهذا الشكل، تماهت الهوية الوطنية مع الهوية الدبلوماسية، وأصبحت الذاكرة الثورية مصدرًا للشرعية السياسية والسيادية في الداخل والخارج على السواء

4. روح نوفمبر كذاكرة مقاومة ضد التبعية الجديدة

مع تحوّل العالم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى ساحة صراع بين المعسكرين الغربي والشرقي، وجدت الجزائر نفسها أمام تحدٍّ جديد: كيف تحافظ على استقلالها في عالم تحكمه التوازنات الكبرى؟ الجواب جاء من روح نوفمبر ذاتها. فكما رفضت الثورة الوصاية الاستعمارية، رفضت الدولة المستقلة الوصاية السياسية والاقتصادية. لم تكن السيادة بالنسبة للجزائريين مسألة رمزية، بل شرطًا وجوديًا للحفاظ على الكيان الوطني. لهذا السبب تبنّت الجزائر سياسة الحذر الاستراتيجي: لا عداء مع أحد، ولا تبعية لأحد. تعاون من موقع الندّية، لا الخضوع.

وقد أثمرت هذه المقاربة في جعل الجزائر نموذجًا لدولة الجنوب التي تجمع بين الصلابة المبدئية والمرونة الدبلوماسية. فعندما انقسم العالم إلى كتلتين متقابلتين، كانت الجزائر تُذكّر الجميع أن الحياد النشط ليس انكفاءً، بل خيار سيادي. كما ربطت بين الاستقلال الاقتصادي والسياسي، فدافعت عن مفهوم “السيادة الاقتصادية” في الأمم المتحدة سنة 1974 ضمن خطاب الرئيس هواري بومدين حول “النظام الاقتصادي الدولي الجديد”. كان ذلك امتدادًا واضحًا لروح نوفمبر، التي اعتبرت أن الحرية لا معنى لها ما لم تشمل السيطرة على الموارد والقرار.

بهذا المعنى، صارت الذاكرة الثورية أداة للمقاومة الفكرية ضد أشكال الاستعمار الجديد، سواء كانت عسكرية أو مالية أو ثقافية. فالسيادة لم تعد تُمارس فقط داخل الحدود، بل في كل مجال تتدخل فيه قوى الهيمنة العالمية. وهكذا تكرّست الفكرة المركزية في الفكر السياسي الجزائري: أن الاستقلال ليس حالة منتهية بل صيرورة مستمرة، وأنّ روح نوفمبر هي السلاح الرمزي الذي يحفظ هذه الصيرورة.

5. من الثورة إلى عدم الانحياز: تجسيد عملي للسيادة

حين شاركت الجزائر عبر ممثليها في مؤتمر باندونغ عام 1955، كانت ما تزال تحت الاحتلال، لكنها أدركت مبكرًا أنّ معركتها تتقاطع مع معارك أخرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ضد الاستعمار والهيمنة. وبعد الاستقلال، وجدت نفسها في صميم هذا التيار العالمي الذي تجسّد في “حركة عدم الانحياز” التي تأسست رسميًا عام 1961. لم يكن موقف الجزائر من عدم الانحياز حيادًا سياسيًا أو دبلوماسيًا محايدًا، بل كان رؤية فلسفية للسيادة. فكما عبّرت الثورة عن إرادة جماعية في التحرر من الاستعمار، عبّر عدم الانحياز عن إرادة الدول الجديدة في التحرر من نظام القطبية الثنائية الذي أعاد إنتاج التبعية بشكلٍ آخر. لذلك تبنّت الجزائر منذ البداية “الحياد النشط”، أي الحياد الذي يشارك في صنع التوازن بدل الخضوع له.

كان هذا الاختيار نتيجة لتجربة الوعي النوفمبري الذي علّم الجزائريين أنّ الاستقلال لا يكتمل ما لم يكن القرار السياسي حرًا، وأنّ حرية الدولة لا تُقاس بكمية المساعدات التي تتلقاها، بل بقدرتها على تحديد مواقفها دون وصاية. ولهذا رفضت الجزائر أن تكون أداة في يد أي قوة كبرى، سواء أكانت غربية أو شرقية. وفي المقابل، دعمت كل حركات التحرر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، معتبرة أنّ المعركة ضد الاستعمار لا يمكن أن تُربح إلا إذا كانت جماعية. لقد أصبح الموقف الدبلوماسي الجزائري جزءًا من هوية عالمية جديدة ترى في الجنوب السياسي قوة معنوية قادرة على فرض خطابها الخاص في المحافل الدولية.

في هذا السياق، استُخدم عدم الانحياز ليس كسياسة مؤقتة، بل كعقيدة دائمة لتجسيد السيادة. فالدبلوماسية الجزائرية لم تكن تكتفي بالتصويت في المحافل الدولية، بل كانت تقترح المبادرات وتقود الوساطات. ومن أبرز الأمثلة على ذلك دورها في دعم الثورة الفيتنامية، ومساندة منظمة التحرير الفلسطينية، ومساعدتها على الحصول على اعتراف دولي سنة 1974. هذه المواقف لم تكن مجرد تضامن عاطفي، بل تطبيقًا عمليًا لفكرة أن “الحرية لا تتجزأ”، وأنّ روح نوفمبر تفرض التزامًا أخلاقيًا تجاه كل شعب يناضل من أجل كرامته.

6. السياسة الخارجية كامتداد للكفاح الوطني

خلال الستينيات والسبعينيات، تطوّر الموقف الخارجي الجزائري إلى ما يشبه “الرسالة السياسية” التي تتجاوز حدود الدولة. فقد تحولت الجزائر إلى منبر عالمي لحركات التحرر، واستضافت مؤتمرات ومكاتب تمثيلية للعديد من الحركات الثورية من أنغولا إلى الموزمبيق، ومن فلسطين إلى جنوب إفريقيا. هذه السياسة لم تكن نابعة من طموح هيمني، بل من إدراكٍ بأنّ الثورة التي انتصرت في الجزائر يمكن أن تكون نموذجًا ملهِمًا لباقي الشعوب. وفي المقابل، منح ذلك الجزائر مكانة دبلوماسية استثنائية في العالم الثالث، حيث اعتُبرت دولة “مرجعية” في القضايا الأخلاقية والسياسية

في الوقت نفسه، لم يكن دعم الجزائر لحركات التحرر على حساب مصالحها الوطنية، بل كان توظيفًا ذكيًا لشرعيتها التاريخية لتثبيت حضورها في النظام الدولي الناشئ. فقد أدركت أنّ الدفاع عن قضايا التحرر يمنحها نفوذًا معنوياً يفوق كثيرًا القوة المادية. وهذا ما أكّده الرئيس هواري بومدين في خطابه الشهير بالأمم المتحدة سنة 1974 حين دعا إلى “نظام اقتصادي دولي جديد” يضمن المساواة بين الشمال والجنوب. كان هذا النداء استعادةً لجوهر روح نوفمبر التي ربطت دومًا بين الحرية والسيادة، بين العدالة والتحرر، بين الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي

لقد استُبدلت لغة البندقية بلغة الدبلوماسية، لكن الهدف بقي واحدًا: الدفاع عن استقلال القرار. فكما واجه المجاهدون ضغوط القوى العسكرية في زمن الاستعمار، واجهت الدولة الجزائرية ضغوط القوى الاقتصادية والسياسية في زمن العولمة المبكرة. ومع ذلك، ظلت الجزائر متمسكة بخطها المستقل، توازن بين المبادئ والبراغماتية، وتُكيّف سياستها الخارجية بما يحفظ سيادتها ويعزّز استقرارها الداخلي

7. من الشرعية الثورية إلى الاستقلال الاستراتيجي

مع نهاية الحرب الباردة ودخول العالم مرحلة جديدة من العولمة، وجدت الجزائر نفسها أمام واقع دولي مختلف، لكنه أعاد طرح السؤال نفسه الذي طُرح في 1954: كيف نحافظ على السيادة في عالمٍ تتحكم فيه القوى الكبرى عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام؟ جاءت الإجابة من قلب الفلسفة النوفمبريّة نفسها، ولكن بصياغة حديثة: “الاستقلال الاستراتيجي”. هذا المفهوم، الذي بدأ يتبلور في التسعينيات، لا يقتصر على استقلال القرار السياسي، بل يشمل استقلال التفكير، وتنوّع الشراكات، وبناء القدرات الوطنية في مجالات الدفاع والطاقة والتكنولوجيا.

فكما رفضت الجزائر في الماضي أن تُختزل في محور عسكري، رفضت اليوم أن تُختزل في محور اقتصادي أو رقمي. لقد طوّرت مفهومها الخاص للسيادة الرقمية والطاقوية والأمنية، معتبرة أنّ التبعية التكنولوجية ليست أقل خطرًا من التبعية الاستعمارية. ومن هنا جاء شعارها في السنوات الأخيرة: “الاستقلال الاقتصادي هو الامتداد الطبيعي للاستقلال السياسي”. بهذا المعنى، أصبح الاستقلال الاستراتيجي منظومة فكرية شاملة تربط بين الأمن والتنمية والسياسة الخارجية. وهو ما يُفسّر حرص الجزائر على انتهاج سياسة متوازنة مع القوى الكبرى — الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة — دون الارتهان لأي منها.

كما يُترجم هذا المفهوم في البعد العسكري-الأمني، حيث تسعى الجزائر إلى بناء قدرات دفاعية وطنية مستقلة مع الحفاظ على مبدأ “اللا تدخل” في شؤون الآخرين. إنها فلسفة دفاعية مستمدة من روح نوفمبر: من حرر بلاده بنفسه، لا يحق له أن يفرض وصايته على غيره. وهكذا أصبح الاستقلال الاستراتيجي التعبير الأحدث عن الإرث النوفمبري في زمن العولمة، حيث الحرب لم تعد تُخاض فقط بالأسلحة، بل بالمعلومة والقرار والسيطرة الاقتصادية.

8. نوفمبر كبنية ذهنية ومرجعية للسياسة الجزائرية

في العمق، يمكن القول إنّ روح نوفمبر أصبحت بنية فكرية ثابتة في الوعي السياسي الجزائري. فهي التي ترسم الخطوط الحمراء في السياسة الخارجية، وتحدّد طبيعة الانخراط الدولي للبلاد. فكلّما تغيّرت الظروف العالمية، تعود الجزائر إلى تلك البوصلة الأولى التي تقول إنّ الحرية تُمارس، ولا تُمنح. ولهذا السبب، حافظت الجزائر على استقلال خطابها في الملفات الإقليمية الحساسة: من ليبيا إلى مالي ومن الصحراء الغربية إلى فلسطين، حيث اختارت دائمًا نهج الوساطة لا الاصطفاف، والحوار لا الإملاء، والسياسة لا الحرب.

هذه المواقف لم تكن مجرد تكتيك، بل تعبير عن عقيدة سياسية متجذّرة. فالجزائر ترى أنّ الشرعية التاريخية تفرض مسؤولية أخلاقية: من تحرّر بدمائه لا يمكنه أن يكون أداة لفرض الهيمنة على الآخرين. لذلك، حين تتحدث الجزائر عن السلم والأمن في إفريقيا، أو عن احترام السيادة الوطنية للدول، فإنها تتحدث من موقع التجربة لا من موقع الخطاب. بهذا المعنى، تحوّلت روح نوفمبر إلى ذاكرة حيّة تنظّم علاقة الجزائر بذاتها وبالعالم، وتربط بين الدفاع عن الهوية الوطنية والانفتاح العقلاني على النظام الدولي.

إنّ الحفاظ على هذا التوازن بين الانتماء والكونية هو ما يمنح الجزائر اليوم خصوصيتها في السياسة الدولية. فهي دولة جنوبية ذات هوية تحررية، لكنها في الوقت ذاته تمتلك رؤية واقعية للعلاقات الدولية، تدرك حدود القوة، وتؤمن بأنّ الاستقلال لا يُحافَظ عليه إلا بالمرونة الذكية. هذه المقاربة تجعلها نموذجًا فريدًا لدولة استطاعت أن تتحرر من الاستعمار دون أن تقع في فخّ التبعية الجديدة، وأن تحافظ على مبدئها الثابت في السيادة وهي تواجه تحديات القرن الحادي والعشرين.

9. الخاتمة – نوفمبر كبوصلة أبدية للسيادة والدبلوماسية الجزائرية

إنّ الأول من نوفمبر ليس مجرد تاريخ في ذاكرة الأمة، بل هو البوصلة التي تُوجّه حاضرها وتستشرف مستقبلها. لقد أسّس هذا اليوم لمفهوم الجزائر كدولة ذات إرادة حرة، وحدّد مسارها في العالم كفاعل مستقل. فالسيادة التي دُفِع ثمنها بالدم أصبحت معيارًا لكلّ سياسة، والاستقلال الذي تحقق عام 1962 ما زال يُعاد صياغته يوميًا في القرارات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية. هذه الاستمرارية بين الثورة والدولة، بين التاريخ والسياسة، هي ما يجعل من التجربة الجزائرية نموذجًا فريدًا في العالم الثالث: دولة وُلدت من رحم المقاومة، وظلّت بعد الاستقلال تُمارس المقاومة بأدوات الفكر والسياسة.

إنّ روح نوفمبر ليست مجرد ذكرى بطولية، بل نظام تفكير أخلاقي واستراتيجي، يجعل من الاستقلال مسؤولية متجدّدة، ومن السيادة فعلاً يوميًا. فكما أن الثورة حررت الأرض، تحرر السياسة الخارجية القرار. وكما أن المجاهدين رفضوا التبعية للغازي، ترفض الدولة اليوم التبعية لأيّ قطب أو قوة مهما كان نفوذها. وهكذا يبقى نوفمبر، بعد سبعين عامًا تقريبًا، مدرسة للسيادة ومصدرًا دائمًا للشرعية، وركيزة لوعي استراتيجي متجدّد يؤكد أن الجزائر لا تُعرّف بما تملك، بل بما تقرّر أن تكون.

إعداد: د. توفيق هامل – دكتور في التاريخ العسكري ودراسات الدفاع، أستاذ-باحث ومستشار

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى