آخر الأخبار

الدكتور توفيق هامل/ روسيا شريك تاريخي… لا حليف مُوثوق: تموضع الجزائر بين موسكو وأوروبا في بيئة استراتيجية متحوّلة يُعيد تشكيل ميزان القوة

المُختصّ في التاريخ العسكري ودراسات الدفاع الدكتور توفيق هامل

  1. تمهيد تنفيذي

تتناول هذه الورقة موقع الجزائر بين روسيا وأوروبا في بيئة استراتيجية متحوّلة. تنطلق من حقيقة أنّ روسيا شريك تاريخي مهم، لكنها لا تُقدِّم—في اختبارات المصلحة الجزائرية العملية—مؤشّرات كافية على «موثوقية الحليف». لم تُساهِم موسكو عملياً في بناء صناعةٍ عسكريةٍ جزائريةٍ ذاتية؛ فالعلاقة بقيت في معظمها شراءَ منظوماتٍ جاهزةٍ وخدماتِ صيانةٍ وتدريب، من دون نقلٍ مُجْدٍ للتكنولوجيا أو تمكينٍ إنتاجيٍّ محلّيٍّ يخفّف الارتهان اللوجستي والتقني. وعلى المستوى السياسي، وعلى الرغم من الخطاب الداعم، لم تترجم روسيا دعمها لالتحاق الجزائر بمجموعة بريكس إلى نتيجةٍ ملموسة؛ ما يكشف حدود «التعهّدات اللفظية» حين تتعارض مع توازنات داخلية في التكتّل وأولويات موسكو نفسها. وفي «اختبار التنفيذ» خارج المجالين العسكري والسياسي، تعطّلت مفاوضات إنتاج لقاح “سبوتنيك V” محلياً، بينما نجحت الجزائر سريعاً في إنتاج “سينوفاك” بالشراكة مع الصين؛ وهو ما يبرز محدودية الجدوى العملية للتعاون الصحيّ مع موسكو مقارنةً ببدائل آسيوية أخرى.

الخبير الدولي في الشؤون العسكرية والدفاع  توفيق هامل لشرشال نيوزدبلوماسياً، خلال جولة التوتّر الإيراني–الإسرائيلي الأخيرة تمسّكت موسكو ببراغماتيةٍ حذرةٍ ولم تُقْدِم على مظلّة دعمٍ صلبةٍ لطهران، رغم ما قدّمته إيران لروسيا من إسنادٍ دبلوماسي وعسكري في أوكرانيا؛ وهو نمط يعكس أولويةَ مصلحة موسكو على التزامات الحلفاء. إقليمياً، لا تُعايِر روسيا تحرّكاتِها في ليبيا والساحل على قياس الأولويات الأمنية الجزائرية؛ إذ يشتغل تمدّدها الأحادي—رسميّاً وبقنوات غير رسمية—أحياناً خارج تصوّر الجزائر لدورها الحدوديّ والوساطيّ، مُحدِثاً «احتكاكات صامتة». طاقوياً، دعمت فاعلون روس مسار خطّ الغاز النيجيري عبر المغرب (NMGP) على حساب المشروع العابر للصحراء عبر الجزائر (TSGP)، ما يُظهِر أنّ الحساب الروسي لا يُعطي مكاسب الجزائر الأوروبية أولوية. ومن ثمّ، تتعامل موسكو مع الجزائر في أحيانٍ كثيرة بوصفها “ورقةَ مقايضة” ضمن مساوماتها مع الغرب أكثر مما تراها شريكاً تُعظَّم قوّتُه الذاتية؛ لذا تبقى موثوقيتها كحليفٍ شاملٍ محلَّ شكٍّ عندما تُختبَر بالمصالح الجزائرية الجوهرية.

الجذر التاريخي للعلاقة الجزائرية – الروسية ومعناه الاستراتيجي

منذ الاستقلال، صاغت الجزائر سياستها الخارجية على مبدأ مركزي: الاستقلالية في القرار، ورفض الارتهان لمراكز القوة الكبرى. موسكو قدّمت نفسها شريكاً يقبل التعامل مع الجزائر بندّية سياسية أكبر مما يقدمه الغرب، ويعرض السلاح والتدريب دون اشتراطات سياسية تتعلق بالنظام الداخلي الجزائري. هذا سمح للجزائر بتثبيت فكرة أساسية: ليست هناك وصاية حصرية غربية علينا، ولدينا داعم كبير يمتلك مقعداً دائماً في مجلس الأمن، وقدرة تسليحية، ورصيداً رمزياً في العالم الذي كان يُسمى سابقاً “العالم الثالث”. هذه الصورة تناولها المجلس الخليجي للشرق الأوسط باعتبارها جزءاً من توازنات النفوذ الروسي في شمال إفريقيا.

غير أنّ صورة روسيا نفسها تبدّلت جذرياً. بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، أصبحت روسيا تحت عقوبات مالية واقتصادية وتكنولوجية واسعة. اقتصادها وقطاعها الدفاعي باتا في حالة تعبئة شبه دائمة. شرعيتها أصبحت مطعوناً فيها علناً داخل الأمم المتحدة. ففي 12 تشرين الأول/أكتوبر 2022، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية كبيرة لإدانة “محاولة الضم غير القانوني” لأقاليم أوكرانية أعلنت روسيا ضمَّها. الجزائر امتنعت عن التصويت، أي أنها لم تصطف ضد موسكو، لكنها أيضاً لم تمنح موسكو تأييداً كاملاً. هذا موثّق في بيان الأمم المتحدة الرسمي.

هذا الامتناع الجزائري يحمل دلالة دقيقة. فهو يقول: نحن نحافظ على مبدأ السيادة ورفض الإملاء الخارجي، لكننا لا نرهن سمعتنا الدولية بالكامل للدفاع عن موسكو. بمعنى آخر، روسيا لم تعد بالنسبة للجزائر مرجعاً ثابتاً يُحتكم إليه، بل أصبحت شريكاً يجب التعامل معه بحساب، حتى لا يكلّف الجزائر رأس مالها السياسي في أوروبا والبحر المتوسط.

  1. البعد العسكري: عمق استراتيجي يتحول إلى نقطة هشاشة

3.1. الاعتماد التاريخي على السلاح الروسي
القوات المسلحة الجزائرية اعتمدت لعقود طويلة على المنظومات الروسية (ومن قبلها السوفييتية). هذا يشمل أنظمة الدفاع الجوي بعيدة المدى والمتوسطة، ومنظومات الدفاع الجوي القريب مثل “بانتسير”، والغواصات من فئة “كيلو”، والصواريخ المضادة للسفن، ودبابات المعركة الرئيسية، والذخائر الذكية عالية الدقة. كما أن جزءَاً من تكوين الضباط الجزائريين، تقنياً وعقائدياً، تم عبر قنوات روسية، ما جعل العلاقة ليست مجرد بيع عتاد، بل بناء مدرسة تشغيلية كاملة. تقديرات متخصصة تشير إلى أن ما يقارب 73 في المئة من واردات السلاح الجزائرية خلال الفترة 2018–2022 جاءت من روسيا. هذه النسبة العالية تظهر في دراسات المجلس الخليجي للشرق الأوسط، التي تصف كيف أصبح التسليح الروسي العمود الفقري التاريخي للجيش الجزائري.

3.2. التغير بعد أوكرانيا
لكن الصورة تتغير بسرعة. وفق بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي، تراجعت واردات الجزائر من السلاح الروسي بحوالي 81 في المئة عند مقارنة مرحلتين: من 2015 إلى 2019، ثم من 2020 إلى 2024. هذا التراجع ترافق مع صعود الصين وألمانيا وتركيا كمزوّدين متزايدي الأهمية. أي أن الجزائر لم تعد تقبل بعلاقة أحادية المصدر، بل بدأت هندسة “تنويع دفاعي” مقصود.

في الوقت نفسه، يوضّح تقرير آخر للمعهد نفسه أن صادرات السلاح الروسية نفسها تراجعت عالمياً بنحو الثلثين خلال أقل من عقد. السبب واضح: روسيا صارت تُوجّه صناعتها الدفاعية أساساً لتغذية جبهتها في أوكرانيا، مع ما يرافق ذلك من حاجة عاجلة للذخائر، والإلكترونيات، وقطع الغيار، في ظل صعوبات توريد مكونات متقدمة بسبب العقوبات. هذا ينعكس مباشرة على الزبائن، لأن تسليم الطلبيات الخارجية وصيانتها أصبح أبطأ، وأكثر عرضة للتأجيل، بل وأحياناً أكثر خضوعاً لأولويات روسية داخلية.

3.3. الأثر العقائدي على الجزائر
هذا التحول ليس تفصيلاً تقنياً. الردع الجزائري يقوم على فكرة الحفاظ على تفوّق نوعي في بيئة مغاربية – متوسطية – صحراوية معقدة، حيث التوتر مع المغرب، وعدم الاستقرار في ليبيا ومالي والنيجر، والضغط الأوروبي على جنوب المتوسط. إذا أصبح المزوّد الرئيسي للسلاح الروسي أقل قدرة على ضمان الصيانة العميقة وقطع الغيار في وقت قصير، فإن جزءاً من هذا الردع يصبح مهدداً. لذلك تتجه الجزائر، بشكل واعٍ، إلى تنويع مصادر التسليح، ليس فقط من أجل شراء منصات جديدة، بل أيضاً من أجل امتلاك معرفة الصيانة والتحكم التقني محلياً. هذا يعني أن موسكو، رغم أنها ما زالت مهمة، فقدت وضع “المصدر الوحيد الذي لا بديل له”.

  1. الطاقة: من تقارب “منتجين سياديين” إلى منافسة مباشرة على السوق الأوروبية

4.1. قبل الحرب في أوكرانيا
قبل عام 2022، كان الخطاب السائد يقول إن الجزائر وروسيا تمثلان نموذجين لدول منتجة للغاز والنفط ترفض الإملاءات الغربية، وتصر على أن مواردها الطاقوية تُدار وفق مصلحتها الوطنية لا وفق إملاءات خارحية. وبناء على هذا الخطاب، كان يُنظر إلى البلدين على أنهما حليفان ضمنياً في الدفاع عن “سيادة القرار الطاقوي”.

4.2. بعد الحرب
بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، تحوّل هذا المشهد رأساً على عقب. قررت أوروبا، وخاصة إيطاليا، تقليص اعتمادها على الغاز الروسي بشكل سريع وحاد. في نيسان/أبريل 2022، أعلن رئيس وزراء إيطاليا آنذاك من الجزائر عن اتفاق لزيادة واردات الغاز الجزائري بنحو 40 في المئة، باعتباره خطوة عاجلة لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي. هذا ما أكدته وكالة رويترز، التي تناولت زيارة المسؤول الإيطالي إلى الجزائر ووصفتها كنقطة تحول في توجه روما نحو الجزائر كمصدر بديل للطاقة.

4.3. حلول الجزائر محل روسيا في إمداد إيطاليا
مع نهاية 2022 وبداية 2023، أصبحت الجزائر المورّد الأول للغاز إلى إيطاليا، لتحل محل روسيا التي كانت تؤمّن سابقاً نسبة كبيرة جداً من احتياجات الغاز الإيطالية. هذا لم يكن تعاقداً تقنياً فقط، بل أُرفق بسلسلة اتفاقات جديدة بين شركة الطاقة الوطنية الجزائرية ومجموعة الطاقة الإيطالية حول الإمدادات المتوسطة الأجل، وخطط الانتقال نحو طاقة أنظف، كما ذكرت رويترز. تحليلات إضافية تشرح أن روما تحاول إعادة تقديم نفسها باعتبارها “جسراً للطاقة” بين إفريقيا وأوروبا، وأن الجزائر هي العمود المركزي لهذه الرؤية. هذا ما تناوله المجلس الخليجي للشرق الأوسط وأيضاً دراسات صادرة عن جهات بحثية متخصصة في التحول الطاقوي مثل مركز إيكو للمناخ.

4.4. من الغاز إلى شراكة أمن شامل
الشراكة الجزائرية – الإيطالية سرعان ما تجاوزت الغاز وحده. خلال عامي 2023 و2025، توسعت لتشمل ملفات الأمن، ومكافحة الإرهاب، والهجرة غير النظامية نحو الضفة الشمالية للمتوسط، إضافة إلى مشاريع كابلات بحرية للاتصالات تحت البحر الأبيض المتوسط، وتفاهمات في مجالات الاستثمار والبنى التحتية. تغطيات دولية مثل رويترز ووكالة أسوشييتد برس تصف هذا المسار بأنه انتقال من “مجرد توريد غاز” إلى “محور سياسي – أمني – اقتصادي” بين الجزائر وروما، حيث ينظر كل طرف إلى الآخر باعتباره شريكاً في الاستقرار الإقليمي، لا مجرد تاجر طاقة.

4.5. أثر ذلك على روسيا
هذا التطور يعني شيئاً بالغ الحساسية: الجزائر لم تعد فقط شريكاً لروسيا في الدفاع عن “سيادة المنتجين”، بل أصبحت البديل المباشر لروسيا في إمداد جنوب أوروبا بالغاز. بمعنى آخر، الجزائر استحوذت على الموقع الذي كانت روسيا تحتله في أمن الطاقة الإيطالي. في المقابل، موسكو لا تريد اختفاء نفوذها الطاقوي في أوروبا إلى الأبد. مسؤولون إيطاليون صرّحوا بأن استئناف شراء الغاز الروسي قد يُعاد النظر فيه في المستقبل “بعد انتهاء الحرب”، كما نقلت رويترز.

النتيجة: لم يعد الأمر “تقارب منتجين سياديين”. أصبحنا أمام منافسة مباشرة على السوق الأوروبية نفسها، أي على الورقة التي تعتبرها الجزائر اليوم قناة نفوذها الأساسية تجاه العواصم الأوروبية.

  1. البعد الدبلوماسي والسياسي: حياد مُعلن، وكلفة حقيقية

الجزائر تبنت ما يمكن تسميته “الحياد السيادي” في أزمة أوكرانيا. فهي لم تصطف علناً ضد موسكو، لكنها أيضاً لم تلتزم بالدفاع غير المشروط عنها. الامتناع الجزائري عن التصويت في الأمم المتحدة في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2022، كما تؤكد وثيقة الأمم المتحدة، يلخص الفلسفة الجزائرية: نحن دولة سيّدة، لا نصبح أداة في صراع الآخرين.

لكن هذا التوازن له كلفة في ثلاثة اتجاهات:

5.1. في العلاقة مع أوروبا
الاتحاد الأوروبي، وخاصة الدول الواقعة شمال المتوسط والمستفيدة من الغاز الجزائري، يريد مورّداً للطاقة يمكن اعتباره أيضاً شريكاً سياسياً وأمنياً ضد ما تعتبره أوروبا “التهديد الروسي”. إذا بدت الجزائر قريبة جداً من موسكو، فإن بعض العواصم الأوروبية قد تتردد قبل منح الجزائر دوراً سياسياً كاملاً في ملفات الساحل والهجرة والحدود الجنوبية للمتوسط. بمعنى آخر، القرب المبالغ فيه من موسكو قد يحد من تحويل الغاز إلى نفوذ سياسي.

5.2. في الساحل الإفريقي
بعد تراجع الدور العسكري الفرنسي في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، تحاول روسيا تموضع نفسها كفاعل أمني بديل عبر قنوات رسمية وغير رسمية. لكن هذا التمدد الروسي في الساحل أحياناً لا يمر عبر تنسيق مسبق مع الجزائر، رغم أن الجزائر تعتبر الساحل امتداداً مباشراً لأمنها القومي (خاصرة حدودية، عمق استراتيجي، مجال منع انتشار الفوضى والجريمة العابرة للحدود). أي أن موسكو تشتغل أحياناً في مجال تعتبره الجزائر مجالها الطبيعي، من دون الاعتراف الصريح بقيادة الجزائر فيه. وهذا يخلق احتكاكاً غير معلن بين الطرفين.

5.3. في قضية الصحراء الغربية
الجزائر تعتبر الصحراء الغربية قضية أمن قومي ومسألة شرعية إقليمية. من منظور جزائري، أي حليف حقيقي يجب أن يدافع في مجلس الأمن عن حق تقرير المصير، أو على الأقل أن يعرقل تحويل “الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية” إلى ما يُقدَّم على أنه “الحل الواقعي الوحيد”. روسيا تنتقد أحياناً الطرح الغربي – المغربي، لكنها لا تمنح الجزائر تغطية مطلقة، ولا تتعامل مع هذا الملف كما تتعامل واشنطن مع المصالح المغربية. هذا يكشف حدود ما يمكن أن تقدمه موسكو: دعم جزئي، لا حماية دبلوماسية كاملة.

الخلاصة في هذا البند: اللغة الروسية حول “السيادة” و”رفض الإملاءات” قريبة من الحساسية الجزائرية، لكن عندما نمر إلى الملفات الجوهرية (الصحراء الغربية، الساحل، ليبيا)، لا تتحول موسكو دائماً إلى مظلة دفاع جاهزة للجزائر.

  1. هل روسيا حليف مُوثوق؟ اختبار عملي للموثوقية

يمكن تعريف “الحليف الموثوق” بوضوح من خلال أربع وظائف أساسية، ثم قياس روسيا عليها:

6.1. الوظيفة العسكرية
الحليف الموثوق هو من يضمن استمرار الإمداد بالعتاد، وتوافر الذخائر، والصيانة، وقطع الغيار، ونقل المعرفة التقنية، حتى أثناء الأزمات. تقارير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي وتحليل المعهد لاتجاهات التسليح في شمال إفريقيا توضح أن روسيا لم تعد قادرة على الإمداد كما في السابق بسبب الحرب والعقوبات، وأن الجزائر بدأت فعلاً تنويع مصادر تسلحها. هذا يعني أن الاعتماد الكامل على روسيا صار خطراً عملياتياً.

6.2. الوظيفة الدبلوماسية
الحليف الموثوق هو من يمنحك غطاءً سياسياً في القضايا التي تعتبرها وجودية. بالنسبة للجزائر، هذا يعني الصحراء الغربية، والساحل، والعمق الليبي. موسكو لا تمنح حتى الآن هذا الغطاء بشكل تلقائي وغير مشروط. أي أن الموثوقية الدبلوماسية الروسية محدودة، وليست شاملة.

6.3. الوظيفة الاقتصادية – الطاقوية
الحليف الموثوق هو من يعزّز نفوذك الاقتصادي، لا من ينافسك عليه. الجزائر أصبحت المزود الأول للغاز لإيطاليا، وبدأت بناء محور استراتيجي مع روما يشمل الإمدادات الطاقوية، والاستثمار، والأمن، والاتصالات البحرية، كما وثّقته رويترز ورويترز والمجلس الخليجي للشرق الأوسط ومركز إيكو للمناخ ووكالة أسوشييتد برس.
لكن روسيا تحاول الاحتفاظ بنفوذها في السوق الأوروبية للغاز، ولا تُخفي رغبتها في العودة مستقبلاً عندما تسمح الظروف، كما أشارت رويترز. هذا يعني أنّ الجزائر وروسيا أصبحتا متنافستين على نفس القناة الحيوية للنفوذ: الغاز نحو أوروبا. أي أن الموثوقية الاقتصادية – الطاقوية لروسيا موضع شك فعلي.

6.4. الوظيفة الرمزية – السمعة الدولية
الحليف الموثوق هو من يقوّي صورتك الدولية ولا يقيّدك بها. الجزائر ترغب في أن تُرى في العواصم الأوروبية على أنها قوة استقرار في الضفة الجنوبية للمتوسط، وفاعل أمني في الساحل، ومورّد غاز موثوق، لا طرفاً تابعاً لمحور معاقَب دولياً. التغطيات الدولية مثل رويترز ووكالة أسوشييتد برس تبيّن أن الجزائر وإيطاليا تقدمان نفسيهما الآن كشريكين في أمن المتوسط والهجرة والطاقة. إذا بدت الجزائر وكأنها ملتصقة بالكامل بروسيا، فإن هذا يضرب هذه الصورة، وبالتالي يحد من قدرة الجزائر على تحويل الغاز إلى نفوذ سياسي واسع داخل أوروبا.

الخلاصة في هذا البند: عندما نقيس روسيا على هذه الوظائف الأربع، نرى أنها لم تعد تستجيب لمعيار “الحليف الموثوق الكامل”.

  1. كيف تتصرف الجزائر اليوم؟ نحو فك ارتباط مُدار لا قطيعة شاملة

الجزائر لا تنزلق نحو قطيعة علنية مع روسيا، لأن ذلك يحمل كلفة رمزية وعسكرية. لكنها أيضاً لا تقبل بأن تبقى رهينة لموسكو. يمكن وصف نهج الجزائر الحالي بأنه “فك ارتباط مُدار” يقوم على ثلاثة محاور:

7.1. الحفاظ على الجسر السياسي مع موسكو
الجزائر تحرص على عدم قطع الخط التاريخي مع روسيا، حتى في المحافل الدولية. الامتناع عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الأول/أكتوبر 2022، كما في الوثيقة الأممية، يسمح للجزائر بالقول: نحن لا نعمل بتعليمات أحد، ونظل أوفياء لمبدأ السيادة ورفض الإملاء الخارجي.

7.2. خفض التبعية العسكرية الحرجة
الجزائر تعمل على تنويع مصادر التسلح، وعلى إدخال شركاء جدد في ميدان العتاد والتقنيات، كما توضحه بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي. الهدف ليس كسر العلاقة مع روسيا، بل كسر الارتهان لروسيا. أي أن موسكو تتحول من “المصدر الوحيد شبه الحصري” إلى “مصدر مهم من بين عدة مصادر”.

7.3. بناء محور متوسطي – أوروبي جديد
العلاقة الجزائرية – الإيطالية لم تعد مجرد علاقة بائع ومشتري غاز. بل صارت محوراً سياسياً وأمنياً واقتصادياً واتصالياً، يشمل الهجرة، ومكافحة الإرهاب، والبنية التحتية للطاقة والاتصالات العابرة للمتوسط، كما رصدته رويترز ورويترز والمجلس الخليجي للشرق الأوسط ومركز إيكو للمناخ ووكالة أسوشييتد برس. هذا المحور يعطي الجزائر نفوذاً مباشراً داخل العواصم الأوروبية، دون المرور عبر موسكو.

الرسالة واضحة: الجزائر ترسم لنفسها موقعاً مستقلاً في المتوسط والساحل، تستفيد من علاقتها مع روسيا لكنه لا يتوقف عليها.

  1. الخلاصة العامة

تُظهر اختبارات الميدان أنّ العلاقة مع موسكو تبقى نافعة حين تنسجم المصالح، لكنها لا ترقى إلى مستوى «حليف يُعوَّل عليه» في الملفات الحاسمة للجزائر. غياب مسارات نقل التكنولوجيا وبناء صناعة عسكرية محلّية يكرّس هشاشةً تشغيليةً عند الأزمات. الدعم اللفظي لعضوية BRICS من دون حصيلة سياسية، إلى جانب تعثّر “سبوتنيك V” مقابل نجاح “سينوفاك”، يبرهن أنّ كلفة الفرص الضائعة ليست رمزية فحسب. البراغماتية الروسية في مواجهة إيران–إسرائيل، والتحرّكات غير المعايرة في ليبيا والساحل، وترجيح NMGP على حساب TSGP، كلّها تشير إلى أنّ موسكو تُقدِّم مصالحها قبل التزامات الحلفاء، بل وتتعامَل مع الجزائر أحياناً كـ«عملة مقايضة» في مساوماتها مع الغرب. وعليه، فإن الصيغة الأكثر عقلانية للجزائر اليوم هي الاحتفاظ بالجسور مع روسيا، وتبريد الارتهان، وتعظيم النفاذ المتوسطي–الأوروبي، مع تسريع التصنيع الدفاعي المحلّي وتنويع الشركاء حيث يكون العائد التنفيذي أعلى من الوعود.

يمكن تلخيص وضع العلاقة الجزائرية – الروسية الراهن في أربع نقاط أساسية:

روسيا ما زالت شريكاً مهماً بحكم التاريخ والتسليح والرمزية السيادية، لكن الحرب في أوكرانيا والعقوبات جعلتها أقل قدرة على لعب دور المورّد العسكري المضمون وأبطأ في تلبية الاحتياجات المعقّدة (ذخائر دقيقة، صيانة أنظمة الدفاع الجوي، دعم الغواصات، تحديث الإلكترونيات المتقدّمة).

دبلوماسياً، لا تمنح موسكو الجزائر حماية شاملة في ملفات تُعدّها الجزائر أمنَها القومي (الصحراء الغربية، العمق الساحلي–الصحراوي، ليبيا)؛ دعمها ليس تلقائياً ولا غير مشروط، بل تحكمه مصلحتها الذاتية.

طاقوياً، لم تعد الجزائر «مع روسيا ضد أوروبا»، بل أصبحت عملياً بديلاً عنها في جنوب أوروبا—وخاصة في إيطاليا—بما يضع البلدين في منافسة مفتوحة على السوق الأوروبية للغاز، وهي اليوم أداة النفوذ الرئيسية للجزائر على الضفة الشمالية من المتوسط.

صورة الجزائر الخارجية تقوم على كونها قوة استقرار في الجنوب المتوسطي، وقوة أمنية في الساحل، وشريك طاقة يمكن الوثوق به. أيُّ انطباعٍ بالالتصاق بروسيا إلى حدّ التبعية يضعف هذه الصورة في العواصم الأوروبية ويُقلِّل من القيمة السياسية لورقة الغاز.

وبناءً على ذلك، تتحرّك الجزائر كقوةٍ إقليميةٍ متوسطةٍ وواعيةٍ لوزنها على النحو الآتي:

لا تقطع الجسر مع موسكو، لكنها ترفض الارتهان.

تعيد توزيع مصادر تسلّحها وتسرّع التصنيع الدفاعي المحلي.

تبني محوراً استراتيجياً متوسّطياً مع روما وعواصم الجنوب الأوروبي.

وتؤكّد أن الساحل والصحراء الغربية ليستا ساحات نفوذ مفتوحة، بل جزءٌ لا يتجزّأ من أمنها القومي المباشر.

بمعنى صريح: روسيا ما زالت ورقةً مفيدةً في يد الجزائر، لكنها لم تعد الورقةَ الوحيدة ولا الورقةَ الآمنة بالكامل.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى