آخر الأخبار

الأخبار الزائفة تغزو الشبكة: أين الحلول من براثن التضليل؟

بات جليًا أن الوسائل الناجمة عن ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال، خاصة تلك المتاحة لعموم الناس، مثل الهواتف المحمولة، قد قلّصت المسافات على الطرق السريعة للمعلومات “، مُضفية عليها سيولة غير مسبوقة. بيد أنّ هذه الوسائل تُنتِج تحديات كبرى، لا سيما في مجال التضليل الإعلامي، سواء عبر المعلومات المضلّلة، أو المعلومات المغلوطة، أو حتى التضليل المتعمد، بما يرافقها من موجات “الأخبار الزائفة”.

وفي خضم هذا السديم المعلوماتي القاتم، برزت اليونسكو كمنارة تُضيء زوايا هذه الظواهر التي تنخر جسد الفضاء الرقمي، وذلك عبر وضع تعريفات دقيقة لها. فميّزت المنظمة الأممية بين التضليل المتعمد (Désinformation)، وهو صناعة محتوى كاذب بقصد الإضرار بفرد أو جماعة أو مؤسسة أو أمة   المعلومات المغلوطة (Mésinformation): وتتمثل في نشر معلومات خاطئة دون قصد الإضرار. وأخيرا، المعلومات المسيئة (Malinformation): وتعتمد على وقائع حقيقية لكن يتمّ توظيفها لغاية الإيذاء وإلحاق الضرَر.

في سياقنا الوطني، لم يكن المحتوى المتداول على منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المُسماة “بديلة” بمنأى عن هذه الآفات الثلاث، التي تُندّد بها الهيئات الدولية المعنية بمجال الاتصال. فقبل أيام فقط، نُشر مقال زائف مُختلق بالكامل، لا يهدف سوى إلى تشويه صورة الجزائر. هذا النص المُفعم بالخبث والافتراء، والذي نُسب زورًا إلى الجريدة الإماراتية “البيان”، يُعد نموذجًا صارخًا لـ التضليل المتعمد.

حُرّر المقال على نسيج من الأكاذيب والتزييف التاريخي، مستنسخًا لهجة التشهير التي تميّز بعض المنشورات الإلكترونية الصادرة عن فضاء المخزن، المعروف بتوظيفه لمفردات سامة تُغذي الكراهية ضد الجزائر، وهي آلية باتت مكشوفة تمامًا لدى الملاحظين الجزائريين. كما أن توقيت نشر هذا المقال ليس وليد الصدفة، إذ يتزامن بشكل مريب مع الجدل الوطني الدائر حول خطاب الكراهية وإنكار بعض المقوّمات الجوهرية للهوية الجزائرية، والذي اشتعل مؤخرًا بسبب الانزلاق التحريري لقناة “سكاي نيوز” عندما منحت الفرصة لـ”مؤرخ” مزعوم، معروف سلفا بانحيازه المرضي ضد ذاته وهوّيته.

تُواكب هذه الهجمة الإعلامية مناخًا من التوتّر المتعمّد الذي تغذيه دوائر أجنبية معادية للجزائر، والتي لا تتوانى عن شنّ حملات غادرة لتقويض استقرار البلاد. وفي خضم هذه المعركة، برزت شرذمة من المُغتَربين المُتعشّشين في منصّة “يوتوب”  الذين يتفنّنون في خطابهم العدائي، يُضاف إليهم طابور من “المؤثرين” المُنتحِبين الذين يجتهدون في تقويض ثقة المواطنين بمؤسساتهم.

هؤلاء صناع السوء الرقمي، بتنوع ولاءاتهم المتباينة وحتى المتصارعة أحيانًا، يتوحّدون مع ذلك في هدف مشترك: تفكيك التماسك الاجتماعي وهدم أسس الدولة. وكان وزير الاتصال مؤخرًا في مرمى نيرانهم، حيث استهدفوه بهجمات شخصية بعدما دعا إلى تشكيل جبهة إعلامية موحدة، مستحضرًا الأصول النضالية للصحافة الجزائرية التي ولدت من رحم ثورة التحرير المجيدة.

يبدو أن مجرد ذكر “صحافة المقاومة” كان كافيًا لإثارة أحقاد دفينة. فعندما أشار الوزير إلى تقدم الصحافة الجزائرية بثلاث عشرة نقطة في تصنيف “مراسلون بلا حدود“، لم يكن يسعى بأي حال إلى شرعنة منظّمة معروفة بتبعيتها لرؤية فرنسية غير ودية تجاه الجزائر. إنما كان يسلط الضوء على تقدّم موضوعي، ولو اعترف بهذا التقدم – على مضَض – تقرير سنوي صادر عن هيئة اشتُهِرت بانتقاداتها اللاذعة وسوء نواياها.

بِمَهارةِ الدبلوماسي المحنك، لا يغيب عن الدكتور محمد مزيان -مستحضرًا مقولة الصحفي والمسرحي ألفريد كابوس ذي الصوت اللاذع – أن “الصحافة هي المدرسةُ الابتدائية للديبلوماسية“. فهو يدرك جيدًا المصالحَ الخفية لـ “مراسلون بلا حدود”، ويعلمُ كمْ تحملُ شتائم هذا “اليوتيوبر” أو ذاك -المعروفِ بتجاوزاته – من سماتِ المضايقةِ المُدبّرة، أكثرَ مما تحملُ من صفة العمل الصحفي.

هذه الأحداثُ الأخيرةُ التي كشفتْ عن درجةِ الاحترافية التي بلغها التضليلُ الإعلامي في فضاءاتنا الرقمية، تجعلُ من أيِّ تدخلٍ تشريعيٍ مناسبٍ مسألةً لا تحتملُ التأجيل. فأصبحَ من الضروري العملُ على وضعِ آلياتٍ قادرةٍ على تحييدِ المحتوياتِ الخبيثة، كبحِ انتشارِ التسمّمِ الرقمي، وإعادةِ الاعتبارِ للخطابِ الإعلامي المسؤول.

إن التصدّي لهذه الآفاتِ لا يمكنُ أن يقتصر على التمنّي وحسن النوايا. فحتى الديمقراطياتُ العتيدةُ سبقتنا إلى تشريعِ قوانينَ صارمةٍ ضدَّ “الأخبار الزائفة”، وتبنّتْ مواثيقَ أخلاقيةً متخصّصةً لضبطِ المحتوى الرقمي. هذه تجاربُ تستحقُ التأملَ كي تستعيدَ الحقيقةُ مكانتَها في عصرِ الانتشارِ الفيروسي.

بلهواري بوزيان

مختص في الاتصال المؤسساتي

جامعة وهران

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى