الأمن الصحي رهان استراتيجي للجزائر الجديدة

يُعَدُّ الأمن الصحي أحد أهم مضامين الأمن بمفهومه الشامل، والعديد من الدول تسعى لتعزيزه من أجل ضمان أمن قومي شامل، بعيدًا عن مختلف التهديدات المحتلمة لاسيما الناجمة عن الفيروسات والأمراض التي تمسّ أمن أفرادها بالدرجة الأولى.

لذلك، تسعى الجزائر جاهدة لكسب رهان تحقيق الأمن الصحي في ظل تزايد تحدياته جراء ظهور العديد من الفيروسات الفتاكة، مثل فيروس كورونا (COVID-19)، بالإضافة إلى الأمراض والأوبئة المستعصية التي انتشرت بشكل كبير في الآونة الأخيرة.

الأمن الصحي …مفهوم متداول منذ زمن الجوائح

اولا لابد من اعطاء تعريف للأمن الصحي من أجل تكوين فكرة عامة وشاملة حول الموضوع، فهو يشير إلى جملة من الأنشطة والإجراءات الوقائية التي تهدف إلى تقليل المخاطر المرتبطة بحوادث الصحة العامة وتأثيراتها على صحة السكان عبر الحدود الوطنية والدولية.

كما يُعتبر الأمن الصحي إطارًا لقضايا الصحة العامة، حيث تتحمّل الدول مسؤولية حماية صحة سكانها من التهديدات الصحية الخارجية، مثل الجوائح والأوبئة التي باتت تنتشر بشكل سريع ورهيب وأصبحت أخطر تهديد يمسّ الأمن العالمي اليوم.

ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يعتبر الأمن الصحي مجموعة”الأنشطة المطلوبة الاستباقية والتفاعلية لتقليل خطر حوادث الصحة العامة وتأثيرها الذي يعرّض صحة السكان للخطر”.

وعلى رغم من ان هذا المفهوم أصبح متداولا بشكل كبير في ظل انتشار جائحة كوفيد 19- الا ان أصل ظهوره يعود الى فترة مابعد الحرب الباردة، كمفهوم جديد في حقل الدراسات الأمنية الذي تطور بشكل كبير في تلك الفترة، الى جنب مفهوم الأمن الغذائي والأمن البيئي.

يعتبر المختصين والخبراء في مجال الصحة والأمن الصحي، اأن أهمية الأمن الصحي في القرن الحادي والعشرين، شهد تحولًا كبيرًا بسبب زيادة مخاطر تفشي الأمراض والأوبئة، على غرار الكوفيد 19 و المتحورات الخطيرة التي ظهرت بعده، الملاريا، الجذري القرد…، مما جعلها مصدر قلق متزايد لدى الدول و المنظمات الاقليمية و العالمية. كما فرض عليها تحديات عديدة تستوجب تعاونًا اقليميا و دوليًا أكبر في مجال الأمن الصحي، حيث صارت الأمراض المعدية تهديدًا للأمن القومي والدولي معا.

وفي هذا الصدد أكّد البروفيسور كمال صنهاجي لدى اشرافه على أحد الملتقيات العلمية بالجزائر والذي حمل عنوان” الأمن الصحي للمواطن: مسؤولية تعني الجميع”. بأن تحقيق الأمن الصحي يشكل أحد أهم التحديات التي تواجه مختلف دول العالم ومنها الجزائر، بحيث يمكن للوضع الصحي أن يتطور إلى حالة طوارئ صحية تستوجب منا -كما قال- التطبيق الفوري لتدابير الحماية وذلك من خلال تنسيق جهود مختلف المتدخلين في مجال الأمن الصحي”.

جوانب و مجالات الأمن الصحي

يشمل الأمن الصحي مجموعة من الجوانب و المجالات التي تعمل على ضمان جاهزية وفعالية المنظومة الصحية الوطنية والدولية للتصدي لأي تهديد محتمل يؤثر على صحة الأفراد والمجتمعات.

ويمكن استعراض جوانب ومجالات في شكل نقاط محدّدة منها الأمراض المستجدّة المُعْدية: وهي الأمراض التي تظهر لأول مرة أو تتزايد بشكل سريع، كالكوفيد 19 الذي شكّل تهديدا حقيقيا للبشرية وبالتالي دقّ جرس الانذار والتأهّب لتصدي له بكل الوسائل الممكنة بداية من الحجر الصحي الى البحث عن اللقاح و العمل على تطويره للقضاء النهائي على الوباء، يشكل أحد أهم مجالات الأمن الصحي. ويركز هذا المجال على الكشف المبكر عن الأمراض من خلال تفعيل استراتيجية وقائية لرصد الأمراض والفيروسات والتدخل السريع لاحتوائها قبل أان تتحول الى جائحة، من خلال تطوير برامج للتطعيم والتلقيح، وضمان استجابة سريعة للحدّ من انتشارها.

نجد أيضا الحوادث الكيميائية والمخاطر الإشعاعية والهجمات البيولوجية، مثل الحوادث التي تتسبّب فيها محطات الطاقة النووية أو المخابر البيولوجية، أو الهجوم البيولوجي او الكيميائي على المدنيين، والمقصود هنا هو مجال الأمن البيولوجي، الذي يهدف إلى حماية السكان من مختلف التهديدات البيولوجية، و يعتمد ذلك على تطوير إجراءات وقائية، تعزيز نُظم الإنذار المبكّر، والتعاون الدولي لضمان السلامة البيولوجية.

بالاضافة الى كل هذا يعدّ الأمن الغذائي والمائي هو المحدّد الاساسي في معادلة الأمن الصحي، حيث أن التلوث الغذائي أو المائي قد يؤدي إلى تفشي أمراض خطيرة. لذلك، يتمّ التركيز على تطوير نظم رقابة فعالة، ووضع معايير صارمة لضمان جودة وسلامة الأغذية والمياه.

وتعمل الجزائر جاهدة على توسيع نطاق نشاطتها في مجال الأمن الصحي، حيث أكد بروفيسور كمال صنهاجي، لدى اشرافه على الملتقى العلمي الموسوم “الأمن الصحي للمواطن: مسؤولية تعني الجميع” بأن الجزائر وتماشيا مع التزاماتها الدولية، تعمل على توسيع نطاق نشاطاتها في مجال الأمن الصحي بالمصادقة على مختلف الإعلانات الدولية والإقليمية ذات الصلة، واتّخاذ التدابير المناسبة لاكتساب خبرات علمية كبيرة لتقييم المخاطر التي تمسّ بصحة الجميع”.

الوكالة الوطنية للأمن الصحي آلية لتعزيز الأمن الصحي

أولى رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أهمية كبرى لقطاع الصّحة العمومية منذ توليه قيادة البلاد، وذلك باجراء العديد من الاصلاحات الاجابية بغية ترقية الخدمات الصحية وتوفير الرعاية اللازمة لكافة المواطنين.

كما شدّد أيضا على ضرورة تطوير المنظومة الصحية و النهوض بها لتكون قادرة على مواجهة ومواكبة مختلف التحديات المتعلقة بصحة المواطن.

وترجم حرص الرئيس بالنهوض بالمنظومة الصحية من خلال استحداث الوكالة الوطنية للأمن الصحي، وهي هيئة استشارية علمية لدى رئاسة الجمهورية تعنى بالأمن الصحي، يترأسها البروفيسور كمال صنهاجي.

كما تعدّ هذه الوكالة بمثابة العقل المدبر، حيث أبرز الرئيس تبون دور هذه الوكالة قائلا “الوكالة ستكون بمثابة المخ الذي سيضمن مستوى عالٍ من العلاج والطب النوعي وحماية الطفولة والأمومة وتوسيع الوقاية من مختلف الأمراض”، فيما ستكون وزارة الصحة بمثابة “الأعضاء التي تطبّق في الميدان”.

كما ان الوكالة تضطلع بالعديد من المهام الأساسية أبرزها وضع الاستراتيجية الوطنية للأمن الصحي.

الاستراتيجية الوطنية للأمن الصحي 2025 – 2030

إن رؤية الجزائر للأمن الصحي باعتباره أحد الركائز الأساسية للأمن القومي بمفهومه الشامل، جعلته يحظى باهتمام كبير من السلطات العليا. وقد تجلى هذا الاهتمام من خلال العمل على اعداد استراتيجية وطنية للأمن الصحي، كخيار استراتيجي يهدف إلى وضع أسس نظام وطني استباقي يعزز مرونة النظام الصحي الوطني وذلك لحماية الأجيال الحالية و المستقبلية من المخاطر الصحية المحتملة.

هذه الرؤية الاستراتيجية الاستشرافية التي ترتكز على العمل الاستباقي كعامل أساسي في تفادي الأمراض وتقليص عدد الإصابات، تهدف بالدرجة الأولى الى توعية المواطن بأهم مسبّبات المرض و تحرص على رفع تقرير علمي إلى رئيس الجمهورية يستند إلى معطيات سابقة وتاريخية حول الأمراض التي تعرف ارتفاعا في عدد الإصابات في الجزائر وأبرز العوامل المسببة لها و المخاطر الناجمة عنها وهذا من أجل ضمان الحماية اللازمة وتفادي كل الاخطار التي من شأنها ان تعرض الأمن الصحي الوطني لتهديد .

هذه الاستراتيجية التي من المنتظر ان يتم الانتهاء من اعدادها في أاقرب الاجال ، من شأنها تعزيز القدرات الوطنية في مجال الوقاية من الأخطار الصحية والاستجابة لها في الوقت المناسب.

ففي عالم مليء بالصراعات الجيوسياسية و بالتهديدات الأمنية لاسيما المتعلقة بالأمن الصحي، أصبح الأمن الصحي ضرورة لا غنى عنها اليوم بالنسبة للدول على حد سواء لضمان رفاهية أفرادها و مواطنها. ومن خلال تطوير مجالات الأمن الصحي المختلفة، وتبني رؤية واستراتيجية وطنية شاملة للأمن الصحي، يمكن للدول أن تكون أكثر استعدادًا لمواجهة مختلف الأزمات الصحية وضمان صحة وسلامة مواطنيها وحمايتهم من كافة الأمراض.

مهدي الباز

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى