واقعية الجزائر في مجلس الأمن… بين “نعم” لحماية الفلسطنيين و”لا” لمنح الغطاء السياسي للعدوان
مهدي الباز

لم يكن تصويت الجزائر لصالح القرار الأممي الأخير المتعلق بغزة حدثًا عابرًا، ولا موقفًا معزولًا عن سياق العلاقات الدولية وتوازناتها الدقيقة. فالجزائر، التي جسّدت لعقود أحد أكثر المواقف ثباتًا وصلابة تجاه القضية الفلسطينية، وجدت نفسها أمام قرار بادرت إليه الولايات المتحدة لأول مرة منذ اندلاع العدوان على غزة، ما فرض مقاربة أكثر تعقيدًا من مجرّد تأييد أو رفض.
السلوك الجزائري في ظل بيئة دولية مضطربة
لفهم هذا الموقف، تبدو العودة إلى النظريات الواقعية في العلاقات الدولية — وعلى رأسها الواقعية الهجومية كما يطرحها جون ميرشايمر — خطوة ضرورية لقراءة سلوك الدولة داخل بيئة دولية محكومة بالفوضى وعدم اليقين، وهي البيئة التي تنتج ما يُعرف بـ”المعضلة الأمنية”. فوفقًا للواقعية، تسعى الدول أولًا إلى البقاء وتعظيم أمنها وتأثيرها، وتتحرّك داخل النظام الدولي وفق ما يفرضه الواقع، لا وفق ما تمليه الخطابات المثالية “الرنانة”.
بين الثوابت الوطنية ومتطلبات البيئة الدولية الراهنة
الجزائر — خلافًا لما يُروّج عبر مختلف الوسائط الإعلامية — لم تغيّر مبدأً من مبادئها، ولم تُعد تعريف موقفها التاريخي في دعم القضايا العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. لكنها اختارت، ضمن حسابات دقيقة ومعقّدة، أن تتحرّك داخل هامش الممكن بدل التمسّك بموقف غير قادر على التأثير في ظل الظروف الدولية الراهنة.
مكاسب القرار الأممي: قراءة في البنود الأربعة
فقد أوضح وزير الشؤون الخارجية أحمد عطاف، في ندوته الصحفية عقب التصويت، أن القرار الأممي الذي تمّ اعتماده — رغم أنه أمريكي المبادرة — تضمّن لأول مرة مكاسب ملموسة و”أولويات استعجالية”، وهي: تثبيت وقف إطلاق النار، توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، تسهيل الإغاثة الإنسانية، وفتح الطريق لإعادة الإعمار.
وهي بنود تشكّل، وفق المنطق الواقعي، حدًّا أدنى استراتيجيًا لا يمكن تجاهله في ظل الانسداد السياسي وغياب أي قرار أقوى أو أوضح.
التأثير من الداخل …خيار الجزائر الواقعي
لم تكن الجزائر تبحث عن موقف رمزي، بل عن مساحة تأثير داخل مسار القرار، وهي مساحة كانت ستتقلص لو اختارت الرفض أو الاصطدام. ولذلك سعت إلى التأثير في مضمون النص بدل تركه ليُصاغ بالكامل وفق الرؤية الأمريكية — وهو ما فُهم خطأً لدى البعض.
التحوّل الأمريكي في آخر لحظة …دوافعه وحدوده
لا يمكن قراءة القرار بمعزل عن تغير في سلوك الولايات المتحدة، التي اضطرت — بعد أشهر من التعطيل — إلى تقديم مشروع قرار لتخفيف الضغط الدولي والمتصاعد ضدها. غير أن هذا التحوّل ما كان ليكتسب شرعية دون دعم دولي، وهنا استثمرت الجزائر اللحظة لتوجيه القرار نحو حماية الفلسطينيين بدل أن يتحوّل إلى غطاء سياسي للعدوان.
الجزائر وتوازنات القوة داخل مجلس الأمن
هذا السلوك يجسّد ما تسميه الواقعية الهجومية “الاستفادة من توازن القوى”: أي استخدام تحركات القوى الكبرى لتحقيق مكاسب ممكنة بدل مواجهتها في توقيت غير مناسب. فالجزائر لم تخسر ثوابتها، بل وظّفت أدوات التأثير المتاحة في مؤسسة أممية مشلولة منذ أشهر.
بين النقد والاتهامات… خطاب المتملقين
تصويت الجزائر بـ”نعم” لم يكن أبدًا قبولًا بالرؤية الأمريكية، بل كان تحرّكًا واعيًا لحماية جوهر الموقف التاريخي عبر تكتيك فرضته اللحظة الدولية المعقّدة. ومع ذلك، ظهر خطاب متشنّج من بعض المتملقين الذين يخلطون بين البراغماتية الواقعية والتنازل السياسي، في قراءة سطحية لا تدرك طبيعة التوازنات الدولية.
ثوابت لا تتغير … فلسطين أو القضايا العادلة في المدرك الجزائري
الجزائر لم تغيّر اتجاهها، بل سعت إلى إبقاء القضية الفلسطينية حيّة في الضمير الأممي. ولا يمكن للجزائر أن تكون ضد الإرادة العربية أو الإرادة الفلسطينية، ولا يمكن أن تكون “فلسطينية أكثر من فلسطين”. هذا هو جوهر موقفها، وهذا ما يجهل فهمه البعض.
مهدي الباز
