في ندوة “تجريم الاستعمار”.. الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني: “ذاكرتنا سلاح مقاومة وكرامتنا لا تُساوم”

احتضن مقر حزب جبهة التحرير الوطني، بالعاصمة، اليوم السبت، ندوة وطنية بعنوان “تجريم الاستعمار”، ألقى خلالها الأمين العام للحزب، عبد الكريم بن المبارك، كلمة تمحورت حول أهمية الذاكرة الوطنية، وضرورة الاعتراف الرسمي بجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
وافتتح بن المبارك كلمته بالترحيب بالحضور من مناضلين وإطارات الحزب والأسرة الإعلامية، مشددًا على رمزية هذا اللقاء الذي يأتي تخليدًا ليوم الذاكرة الوطنية، الذي أقرّه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، تذكيرًا بمجازر 8 ماي 1945 وما حملته من دلالات في مسار الكفاح التحرري. وقال، “نحن لا نحيي مجرد ذكرى، بل نستحضر روح أمة صاغها الشهداء بدمائهم، وأرست دعائمها على المقاومة والكرامة”
وأضاف أن جرائم الاستعمار في الجزائر ليست أحداثًا من الماضي، بل جرحًا مفتوحًا في ذاكرة الشعوب، واصفًا إياها بأنها “جرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم”.
وأكد بن المبارك أن الجزائر الجديدة لا تتحدث من موقع الجراح فحسب، بل من موقع النصر، مشيرًا إلى أن الدولة الجزائرية اليوم، بسيادتها الكاملة، تُعيد تعريف مكانتها الإقليمية والدولية على أسس نابعة من قيم ثورة نوفمبر.
وفي سياق متصل، أثنى الأمين العام على القانون الجديد المتعلق بالتعبئة العامة، واصفًا إياه بأنه “إطار استراتيجي لتحصين الوطن في وجه التهديدات الحديثة التي لم تعد تقليدية، بل هجينة تشمل الاقتصاد، المعلومات، والصحة”، داعيًا إلى إشراك كل القدرات الوطنية في هذا المسعى الدفاعي الشامل.
كما شدّد على دور المؤسسات التعليمية والإعلامية في ترسيخ الذاكرة الوطنية، معتبرًا أن إحياء ذكرى 8 ماي لا يجب أن يكون موسميًا، بل فعلًا تربويًا وثقافيًا مستمرًا يربط الأجيال بجذورهم.
وفي ختام كلمته، وجه بن المبارك تحية خاصة للباحثين والأساتذة المشاركين في الندوة، داعيًا إلى صياغة توصيات ملموسة تُترجم إلى سياسات عملية تحصّن الذاكرة الجماعية من محاولات التزييف والنسيان.
شرف الدين عبد النور
النص الكامل لكلمة الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني عبدالكريم بن المبارك في ندوة تجريم الاستعمار
“بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
– السيدت والسادة إطارات الحزب ومناضليه
– الضيوف الأفضل
– أيّها الحضور الكريم،
– أسرة الاعلام،
يشرفني أن أرحب بكم جميعا في رحاب حزب جبهة التحرير الوطني، بمناسبة هذه الندوة العلمية التاريخية، نلتقي اليوم في حضرة التاريخ والوفاء ليوم الذاكرة الوطنية، وإذ نحيي هذه الذكرى؛ إنما نهدف من خلالها إلى تعزيز ارتباطنا بوطننا المفدى، وتطلعنا إلى بناء مستقبل يليق بتضحيات أولئك الذين قدموا أرواحهم الزكية فداءً لهذه الأرض الطاهرة، وفداء لحرية الإنسان وكرامته في جزاىرنا الأبية، وفي جميع بقاع الأرض.
في مثل هذا اليوم، لا نسترجع فقط صور المعاناة والبطولة، بل نستدعي المعنى العميق للحرية، نستدعي دماء شهدائنا الأبرار التي سالت على ثرى الجزائر، والتي روت شجرة الاستقلال، واستحالت إلى جذور ضاربة في عمق هويتنا، وأوراقٍ وارفة تظلل أجيالنا القادمة بكرامة الوطن.
لقد كانت الذاكرة الوطنية ولا تزال سلاحًا من نوع آخر، سلاح لا يصدأ، ولا تنطفئ جذوته، ذاكرة ممتدة في أعماق التاريخ نواجه بها حملات التشويه والتزوير، وبها نثبت للعالم أننا شعب عريق عراقة التاريخ الإنساني له ذاكرة لا تنسى، ولا يتنازل عن حقه في سرد تاريخه كما هو، لا كما يُملى عليه.
السيدات والسادة،
الحضور الكريم
في يوم الذاكرة الوطنية الأغر ، لا نحيي ذكرىً عابرة من الماضي، بل نستحضر وجدان أمة صاغته التضحية، والمقاومة، والكرامة الجريحة التي أبت أن تزول، لقد أقرّ رئيس الجمهورية السيد عبدالمجيد تبون هذا اليوم ليكون محطة سنوية للتأمل الجماعي، لا في ما مضى فحسب، بل في ما يُنتظر منّا أن نكون عليه، نحن أبناء الجزائر الجديدة، الوارثون لرسالة الشهداء الأبرار، وحَمَلة مشعل الحرية في هذا العالم المتقلب.
لسنا اليوم بصدد فتح جراح الذاكرة بقدر ما نُصغي لنبضها العميق، جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر ليست مجرد وقائع تاريخية، بل جرح كوني مفتوح، شاهده العالم ثم سكت، بل تواطأ أحيانًا، مجازر جماعية، إبادات ممنهجة، تهجير قسري، نفي خارج الوطن، تجريد من الملكيات، وتفجيرات نووية حوّلت الجنوب الجزائري إلى مسرح لتجريب الموت، لم تكن تلك الجرائم ضد شعب، بل ضد الإنسانية ذاتها، وضد التاريخ، وضد فكرة العدالة، إنها جرائم لا تسقط بالتقادم، لأن ضمير الشعوب الحية لا يعترف بالتقادم حين يتعلق الأمر بالكرامة.
اليوم، لا تتحدث الجزائر الجديدة من موقع الجراح فقط، بل من موقع الانتصار، إنها دولةٌ استرجعت سيادتها كاملة، وتُعيد تعريف وجودها في الداخل والخارج، بناءً على قيم ثورة نوفمبر المجيدة: قيم الحرية، والسيادة، والتضامن، والدفاع عن الحق أينما كان.
إن الجزائر اليوم دولة سيدة تطالب بالاعتراف، والإنصاف، والحقيقة التي وحدها يمكن أن تُمهّد لمستقبل مشترك تحكمه علاقات الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة.
أيّها الإخوة الأفاضل
إن يوم الذاكرة الوطنية ليس مرآةً للماضي فقط، بل بوصلة للمستقبل، مستقبل تُرسّخه الجزائر بحكمة دولتها، وقوة مؤسساتها، ووعي شعبها، وولاءها العميق لقيم الثورة التي لم تكن ثورة بندقية فقط، بل كانت ثورة ضمير إنساني ضد كل أشكال الإخضاع والإذلال.
إن الجزائر التي نحتفي بتاريخها اليوم، ليست الجزائر التي يريدها أعداؤها مجرد صفحة طواها الزمن، إنها الجزائر التي تقرأ ماضيها بعين العزيمة، وتكتب حاضرها بإرادة البناء، وتصوغ مستقبلها بوعي الأحرار.
في هذا اليوم، نقف بخشوع أمام أرواح الشهداء، لنواصل المشوار، ونُجدد العهد مع وطنٍ أراده أعداؤه ميتًا، فصار حيًا قويا سيدا.
ونجدد العزم على أن تكون الجزائر، دومًا، كما أرادها الشهداء: حرة، مستقلة، شامخة، عصية على الانكسار.
إننا في هذه المناسبة الوطنية الخالدة في حزب جبهة التحرير الوطني نحيي يوم الذاكرة الوطنية: وفاءٌ للتاريخ، وتجديدٌ للعهد.
وتأتي هذه الذكرى اليوم في سياق وطني جديد، حيث تسعى الجزائر إلى كتابة تاريخها بأقلام أبنائها، بعيدًا عن الروايات الاستعمارية المشوّهة، وإلى تحقيق السيادة الثقافية والرمزية، من خلال إعادة الاعتبار لذاكرتها الجماعية، وتعزيز ارتباط الأجيال الناشئة بجذورها وهويتها، ولهذا الغرض، أُنشئت مؤسسات وطنية تعنى بالتاريخ والذاكرة، وأُدرجت هذه الأحداث ضمن البرامج التعليمية، كما أطلقت مبادرات فكرية وثقافية وفنية لإحياء الذاكرة وتخليد ذكرى شهداء الجزائر الأبرار.
إن مجازر 8 ماي 1945 ليست مجرد أحداث دموية طويت في أرشيف النسيان، بل هي شهادة دامغة على طبيعة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، الذي لم يتورع عن استعمال أبشع وسائل القمع والبطش لإسكات أي صوت ينادي بالحرية، لقد خرج الشعب الجزائري في مظاهرات سلمية احتفالًا بانتصار الحلفاء، ومطالبًا بالوفاء بالوعود التي أُطلقت بشأن استقلال الشعوب المستعمَرة، لكن الرد جاء بالقنابل والرصاص والمشانق.
ما يجعل هذا الحدث مفصليًا في التاريخ الجزائري هو أنه كشف بجلاء نهاية وهم الإدماج، وزيف ادعاءات “التمدين”، وأكد لكل جزائري أن التحرر لا يُمنح، بل يُنتزع. ومن هنا، فإن المجازر كانت البذرة المباشرة لولادة الوعي الثوري الجماعي الذي ستجسده لاحقًا ثورة أول نوفمبر 1954.
يُعدّ يوم الذاكرة الوطنية فرصة تربوية بامتياز، ينبغي توظيفها في المؤسسات التعليمية لتعزيز الارتباط بالتاريخ الوطني، فتلقين الأجيال الصاعدة معاني المقاومة والتضحية، وفهم الخلفيات السياسية والاجتماعية للمجازر، هو أحد الأسس التي تساهم في بناء مواطن واعٍ بماضيه ومعتزّ بهويته.
ولا يكفي التذكير بالأحداث في المناسبات، بل من الضروري أن تصبح الذاكرة الوطنية عنصرًا حيويًا في المناهج التعليمية، والأنشطة الثقافية، وبرامج الإعلام التربوي. كما يجب فتح المجال أمام البحث التاريخي الأكاديمي لتوثيق الشهادات، وتحليل الروايات المختلفة، بهدف خلق رؤية نقدية ناضجة ومسؤولة للتاريخ الوطني.
السيدات والسادة الأفاضل،
أيها الحضور الكريم،
إن الجزائر الجديدة التي ندعم بناءها معًا، لا يمكن أن تنهض على ركام النسيان أو المصالحة المنقوصة، بل على الاعتراف الصريح، وتجريم ما لا يُغتفر، ولهذا فإننا نحيي بكل اعتزاز وشرف، موقف رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، الذي كان أول من أعاد للذاكرة الجزائرية اعتبارها، بإقراره يومًا وطنيًا للذاكرة، تخليدًا لمجازر 8 ماي 1945، وموقفًا ثابتًا في وجه كل محاولات التزييف والنسيان.
كما نثمّن عالياً جهود مؤسسات الدولة كافة، الذين ما فتئوا يعملون على توطيد أسس دولة القانون والمؤسسات، دولة ترتكز على السيادة الشعبية، وعلى الحقيقة التاريخية، وعلى العدالة التي لا تُفرّط في دم الشهداء، ولا تُساوم على كرامة الجزائر.
وإذا كان تجريم الاستعمار هو فعل مقاومة في مواجهة النسيان، فإن قانون التعبئة العامة هو فعل تحصين في مواجهة الخطر. وهو خطوة استراتيجية تأتي في لحظة إقليمية ودولية دقيقة، تتسم بتصاعد النزاعات، وتعدد أشكال التهديدات، وتحوّل طبيعة الحروب نحو أبعاد هجينة تشمل الاقتصاد، والصحة، والطاقة، والفضاء الرقمي، والمعلومة.
إن الدولة الجزائرية، عبر هذا القانون، تؤسس لمنظومة دفاعية شاملة، تجعل من التعبئة العامة إطارًا قانونيًا للتجنيد الوطني، لا يقتصر فقط على المؤسسة العسكرية، وإنما يمتد إلى مختلف القطاعات الحيوية، والقدرات البشرية، والخبرات الفنية، من أجل رفع الجاهزية الوطنية في أوقات الطوارئ أو الخطر.
نحن في حزب جبهة التحرير الوطني، نرى في هذا القانون خطوة ضرورية لتعزيز مفهوم الأمن الوطني الجامع، القائم على الشراكة بين الدولة والمجتمع، بين المؤسسات والمواطن، وبين الحاضر والمستقبل.
السيدات والسادة الأفاضل،
الجزائر تمر بمرحلة مفصلية تتطلب منا جميعًا إعادة بناء الثقة، وإعادة قراءة التاريخ، والاستعداد لتحديات الغد.
وتبقى جبهة التحرير الوطني، بأصالتها ومشروعها الوطني، وفيّة للعهد، صامدة في المبدأ، منفتحة في الرؤية، ملتزمة بخدمة الوطن، حريصة على وحدته، ومدافعة عن سيادته بكل الوسائل الشرعية والديمقراطية.
كما نثمّن عالياً جهود مؤسسات الدولة كافة، وخاصة الوطنيين الشرفاء الذين ما فتئوا يعملون على توطيد أسس دولة القانون والمؤسسات، دولة ترتكز على السيادة الشعبية، وعلى الحقيقة التاريخية، وعلى العدالة التي لا تُفرّط في دم الشهداء، ولا تُساوم على كرامة الجزائر.
وفي هذا السياق، نُثني بكل تقدير على الأساتذة والباحثين المشاركين في هذه الندوة الوطنية، الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية التوثيق، والتحليل، والتأريخ، ليس فقط من أجل الحاضر، بل من أجل الأجيال القادمة.
وأرجو أن تُتوّج هذه الندوة بتوصيات تُترجم إلى سياسات فعلية، تضمن تحصين الذاكرة الوطنية من كل محاولات الطمس والتشويه، وتُسهم في بناء خطاب وطني جامع، لا يساوم على الحقيقة.
شكرا على كرم الإصغاء
– المجد والخلود لشهدائنا الأبرار،
– والخلود لذاكرة وطن لا يُقهر،
– والتحية والوفاء للجزائر المنتصرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
