آخر الأخبار

في الذكرى الـ190.. معركة “المقطع”… ملحمة جزائرية خالدة تبرز دهاء الأمير عبد القادر عسكريا

مهدي الباز

في مثل هذا اليوم، 28 جوان من عام 1843، سطّر الجزائريون إحدى أبرز صفحات المجد في تاريخهم الحديث، من خلال معركة “المقطع”، التي قادها الأمير عبد القادر، مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، ضد قوات الاحتلال الفرنسي. هذه المعركة، التي اندلعت في المنطقة الواقعة بين المحمدية والسيق بولاية معسكر، لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل محطة مفصلية في مسار تشكّل الوعي الوطني الجزائري، ودرس عسكري يُدرّس في أعظم الكليات الحربية و المعاهد العسكرية إلى يومنا هذا.

“المقطع”… منطقة تقاطع بين قوات الأمير والجيش الفرنسي

تكتسي منطقة “المقطع” أهمية جغرافية واستراتيجية، إذ تقع بين المحمدية والسيق، وهي إحدى الجبهات التي شهدت أعنف المواجهات بين قوات الأمير عبد القادر والجيش الفرنسي في بدايات الاحتلال. وقد حملت المعركة اسمها نسبة إلى هذا الموقع ، حيث تمكّنت قوات الأمير المقاومة ، رغم بساطة العتاد المستخدم في القتال، من إلحاق هزيمة قاسية بجيش مدجّج بأحدث تقنيات العسكرية والآلة الحربية. وقد أبهرت هذه المعركة العديد من القادة والخبراء العسكريين في العالم، لما أظهرته من شجاعة وبراعة في التكتيك الحربي.

تكتيك عسكري يعكس دهاء الأمير عبد القادر في الحرب

لم تكن معركة المقطع مجرد مواجهة عسكرية، بل ثمرة تخطيط استراتيجي محكم قاده الأمير عبد القادر، الذي أظهر مرة أخرى عبقريته الفذّة في إدارة المعركة. استخدم الأمير تكتيك “الكماشة”، وهو من أعقد الخطط في فنون الحرب، حيث استغل طبيعة الأرض لصالحه، على غرار ما أوصى به الجنرال الصيني سان تزو في كتابه “فن الحرب”. فاجأ الأمير قوات العدو بهجوم مباغت، وأحاطها من جميع الجهات، معتمدًا على تنسيق دقيق بين وحدات الخيالة والمشاة، ما أدى إلى إرباك الجيش الفرنسي ووضعه في حصار خانق. ووفقًا لتقارير عسكرية فرنسية، فقد تجاوز عدد القتلى في صفوف الجيش الفرنسي 200 جندي، بينهم ضباط، كما أُصيب الجنرال تريزيل قائد المعركة بجروح بالغة أدّت إلى فقدانه إحدى عينيه، مما دفع الحكومة الفرنسية لاحقًا إلى عزله من منصبه.

نصر استراتيجي عزّز مكانة الدولة الجزائرية ورسم طريقًا للاستقلال

معركة “المقطع” لم تكن مجرّد نصر عسكري، بل لحظة فارقة في بناء الدولة الجزائرية الحديثة. فقد ساهم هذا الانتصار في تعزيز سلطة الأمير عبد القادر في الأقاليم الغربية، ورسّخ شرعية دولته الناشئة، التي بدأت تتوسّع شرقا وغربا،شمالا وجنوبا، مستندة إلى دعم شعبي واسع واعتراف ضمني من القوى الاستعمارية بوجود كيان سياسي مقاوم. كما غرس هذا النصر في نفوس الجزائريين روح الانتماء والهوية، وعمّق من وعيهم الوطني، في وقت كانت فيه فرنسا تسعى بكل الوسائل لطمس التاريخ والهوية الجزائرية.

وقد شكّلت هذه المعركة تمهيدًا لسلسلة من الانتصارات والمواقف البطولية التي جعلت من الأمير عبد القادر رمزًا عالميًا للمقاومة، وأحد أبرز القادة الذين نالوا احترام قادة الدول الكبرى، لما أبداه من صمود وشجاعة في وجه واحدة من أعنف قوى الاستعمار في تلك الحقبة.

معركة “المقطع” ليست مجرد واقعة تاريخية، بل شهادة خالدة على قدرة الجزائريين على الدفاع عن أرضهم وهوّيتهم، مهما كانت التحديات. وبعد مرور 190 سنة، لا تزال هذه الملحمة مصدر إلهام للأجيال، ودليلًا على أن السيادة تُنتزع بالتضحيات، وأن الاستقلال يُبنى بالإرادة والإيمان الراسخ بالحق.
اليوم، وفي كنف الاستقلال والسيادة الوطنية، يحيي الجزائريون ذكرى هذه المعركة الخالدة، وفاءً لدماء الشهداء، وتجديدًا للعهد مع التاريخ.

مهدي الباز

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى