آخر الأخبار

عسكرة الحكم في مالي… من شعارات التحرر إلى واقع الانهيار

مهدي الباز

تعيش معظم دول منطقة الساحل الإفريقي على وقع أزمات سياسية وأمنية متصاعدة، تعود أسبابها إلى تداخل عوامل داخلية وخارجية، أبرزها ضعف مؤسسات الدولة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتنامي ظاهرة “عسكرة الدولة” التي تحول فيها الجيش من مؤسسة وطنية مهمتها حماية السيادة والدفاع عن الحدود، إلى لاعب سياسي مهيمن يتدخل في إدارة الحكم وصناعة القرار.

ويُعد النموذج المالي أوضح مثال على هذا المسار، إذ شهدت البلاد منذ عام 2012 سلسلة من الانقلابات العسكرية التي أجهضت مسار الانتقال الديمقراطي وأعادت مالي إلى دوامة الحكم العسكري، رغم الوعود المتكررة بإعادة السلطة إلى المدنيين.

في السياق الإفريقي، تُجسد مالي نموذجًا صارخًا لما يمكن وصفه بـ”عسكرة الدولة”، حيث تجاوزت المؤسسة العسكرية دورها الدستوري لتتحول إلى سلطة حاكمة تُقصي النخب المدنية وتحتكر القرار السياسي والاقتصادي. ويتجلى ذلك بوضوح في عهد العسكري عاصيمي غويتا، الذي صعد إلى السلطة على متن دبابة عسكرية، رافعًا شعارات “التحرر” و“السيادة الوطنية”، لكنه سرعان ما كرّس واقعًا استبداديًا أعاد البلاد عقودًا إلى الوراء لم تكن مالي لتصل إليها لولا تهوره.

منذ استيلائه على الحكم، عمل غويتا على تفكيك الحياة السياسية من خلال حل الأحزاب وتقييد أنشطة المجتمع المدني، في محاولة لإحكام قبضته على الدولة وإسكات أي صوت معارض. وتشير تقارير إلى أن نظامه يعتمد على دعم خارجي، خصوصًا من مجموعة مرتزقة من الخارج تعمل إلى جانب جيشه الهش، والتي رسخت وجودها العسكري والاقتصادي في البلاد مقابل امتيازات في مجالات التعدين واستغلال الموارد الطبيعية، ما جعل من السيادة التي يتغنى بها المجلس العسكري مجرد شعار.

وقد أدى هذا النهج السلطوي إلى فقدان المواطن المالي ثقته في مؤسسات الدولة الهشة، وتفاقم الانقسامات الاجتماعية، فيما تصاعدت الهجمات المسلحة في شمال البلاد ووسطها. ومع تعليق الدستور وتأجيل الانتخابات، اتسع الفراغ السياسي، فاستغلت التنظيمات المسلحة ذلك للتمدد والسيطرة على مناطق جديدة، ما فاقم الأزمة الأمنية وأغرق البلاد في دوامة من العنف والتدهور الاقتصادي. وهي مؤشرات تدل على دولة فاشلة قائمة في المنطقة تجعل من الساحل الإفريقي مصدرًا لإنتاج الأزمات لدول الجوار.

أما التدخلات الأجنبية، سواء من القوى الغربية أو الإقليمية التي تصطاد في المياه العكرة، فقد زادت المشهد تعقيدًا بدل أن تساهم في حله. فغالبًا ما اتسمت هذه التدخلات بازدواجية المعايير، وسعت إلى خدمة مصالحها الاستراتيجية أكثر من حرصها على استقرار مالي أو حماية شعبها.

وفي خضم هذا الوضع المضطرب، وجد عاصيمي غويتا نفسه محاصرًا من كل الاتجاهات بعد أن انهارت أوهامه في حكم البلاد بقبضة الحديد والنار. فالمراهق الذي يحمل بإنشاء تحالف عسكري في الساحل الإفريقي، لم يجنِ سوى عزلة دولية خانقة وانهيار داخلي متسارع.

وبعد فشل رهاناته على موسكو، لجأ غويتا إلى محاولة استرضاء الولايات المتحدة تحت ذريعة التعاون في محاربة الإرهاب، في محاولة يائسة لإقناع واشنطن بأنه شريك يمكن التعويل عليه. ضنًا منه أن الولايات المتحدة الأمريكية تفكر بنفس مستواه المنحط في تعاملاته مع الدول. غير أن هذه الخطوة كشفت حقًا عن ارتباكه السياسي ومحدودية تفكيره الذي لا يتجاوز قبعته. إذ بدل أن يسعى إلى مصالحة داخلية حقيقية وبناء شراكة مع القوى الإقليمية الموجودة في جواره، انخرط في نزاعات دبلوماسية مع كل من ساحل العاج وموريتانيا، قبل أن يخطئ في حساباته مع الجزائر التي ردّت بكل حزم بإغلاق حدودها ومجالها الجوي أمام طيرانه، وهو قرار مثّل ضربة استراتيجية لمنظومة حكمه.

ولم يقتصر توتر العلاقات مع الجزائر على الجانب الدبلوماسي فحسب، بل امتد إلى نقض غويتا لاتفاق الجزائر للسلام والمصالحة في مالي، الموقع عام 2015، والذي شكل أساسًا لوقف النزاع المسلح في شمال البلاد. فقد وصفه بأنه “اتفاق فاشل” و”مفروض من الخارج”، متجاهلًا أنه كان ثمرة وساطة جزائرية متوازنة جنّبت مالي الانزلاق نحو حرب أهلية شاملة. غير أن موقفه هذا لم يكن نابعًا من رغبة في الإصلاح أو المراجعة، بل كان محاولة لتبرير فشله السياسي وخلق شماعة يعلق عليها إخفاقاته.

تجميد تنفيذ الاتفاق أدى إلى تفكك الهياكل المشتركة للسلام، ووفّر للتنظيمات المسلحة مبررًا لاستئناف القتال واستعادة مواقعها السابقة، ما زاد من هشاشة الأمن وأضعف الثقة بين الحكومة المركزية في باماكو ومكونات الشمال. وهكذا، تحوّل الاتفاق، الذي كان يُنظر إليه كفرصة لإعادة بناء الدولة على أسس التوافق والعدالة، إلى ورقة سياسية توظفها الطغمة العسكرية وفق حساباتها الضيقة ومصالحها الآنية.

هذا المسار التصعيدي جعل مالي أكثر عزلة من أي وقت مضى. فيما أدى غياب الرؤية الاقتصادية لدى الطغمة العسكرية إلى أزمة وقود حادة وارتفاع أسعار المواد الغذائية وتفشي المجاعة في مناطق عدة من كل أرجاء مالي، ما أجبر آلاف الماليين على النزوح نحو الشمال والغرب.

وفي ظل هذا الانهيار، عادت بعض الحركات المعارضة التي كانت تنشط باستمرار إلى الواجهة، لتملأ الفراغ الأمني والسياسي وتستعيد مواقع استراتيجية كانت تحت سيطرة الجيش، حتى باتت هذه الحركات اليوم تتحكم فعليًا في مساحات واسعة من شمال البلاد وتقترب تدريجيًا من العاصمة باماكو.

أما غويتا، فقد خسر جميع أوراقه. فحلفاؤه من الشرق الذين أوصلوه إلى سدة الحكم الآن منشغلون بحروبهم، أما الغرب فلم يعد يثق به بعد أن انقلب على عقيدتهم المزيفة “الديمقراطية”، وجيرانه أداروا ظهورهم له بعد أن خذل الشعب المالي وخدعهم بوهم التحرر. وهكذا، وجد نفسه أمام واقع صعب صنعه بيده، بعدما حوّل مالي من دولة فاشلة إلى دولة منهارة تنتظر التجزئة في ظل وجود قوة سياسية مسلحة تطمح في الانفصال.

وفي ضوء هذا المشهد المتعفن، يبدو واضحًا أن تغوّل العسكر وغياب المساءلة السياسية لا يؤديان إلا إلى إعادة إنتاج الأزمات بدل حلّها. وهذا ما يستدعي من الفاعلين الإقليميين والدوليين، ومن قوى المجتمع المدني المالي، التحرك نحو مسار وطني شامل يضع حدًا لعسكرة الحكم ويعيد السلطة إلى المدنيين، تمهيدًا لبناء دولة مؤسسات تحكمها الشرعية الدستورية لا شرعية الدبابة.

ويبقى السؤال الأهم في كل هذا،إلى متى ستظل القارة الإفريقية، ومالي تحديدًا، أسيرة منطق “الطغمة العسكرية” الذي أثبت التاريخ أنها لا تجلب سوى الخراب والانقسام، في غياب رؤية وطنية جامعة تعيد للشعب حقه في ممارسة السياسة والعيش بكرامة؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى