رمضان الحرب والجروح والنزوح .. نصرٌ من الله أو جنّة خلد بمسك تفوح !!
محمد مصطفى حابس : جنيف / سويسرا
هل أنّ للأمّة الفا(تـ)ـرة أن تولي وجهة بوصلة صيامها شطر أرض معراج نبيها؟؟
الصيام والحروب والأمراض صارت خلطة تعرفها شعوبنا الإسلامية المعاصرة منذ عقود ونتجرع ألامها في كل حين عبر السنين، ولا زالت أمتنا تقرأ تاريخها بعين و تبكي بعين لفداحة الخسارة ومرارة المصيبة خاصة بتواطؤ علني مفضوح لبعض الخدم من الأمراء الأجراء من حكامنا أجيالا تلو الأجيال، خسة و نذالة !!
للتاريخ محطات مع جروحنا الدامية
و للتذكير من باب ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، هذه محطات بعض جروحنا الدامية التي لازلت تنزف وتنزف بغزارة كلما أمطنا عنها الغبار، ففي العقود الأخيرة فقط في عام 1967 اجتاحت إسرائيل 5 دول عربية ودمرت جيوش 6 دول في 6 أيام، إضافة للأسرى بعشرات الألاف، كما دفنت إسرائيل في الصحراء آلاف الجنود المصريين أحياء واحتلت الضفة والقدس وغزة والجولان وشبه جزيرة سيناء. وفي عام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان، أيامها ارتكبت الميليشيات الطائفية المسيحية اللبنانية مجازر صبرا وشاتيلا الرهيبة و أرغمت اللاجئين الفلسطينيين للرحيل ثانية لتونس. و في عام 2001، اجتاحت أمريكا على رأس تحالف دولي أفغانستان بعد هجوم 11 سبتمبر اللعين، المنسوب كذبا وزورا وبهتانا للمسلمين، وفي عام 2003، شنت أمريكا المتوحشة حربًا على العراق البلد القوي بحجة كاذبة وهي وجود أسلحة دمار شامل… و الأمثلة النازفة والصاعقة عديدة في كل شبر من بلادنا العربية و الاسلامية، لو واصلنا سردها لأصبنا القارئ الكريم بالغثيان والجنون، وبالتالي نكتفي فقط بذكر بعض الأسماء للتاريخ لكي لا ننسى، هذه جروح سورية الشهباء و ذلك شقاء اليمن السعيد و تشتت الصومال الوليد و شروخ ليبيا بترول و حديد..، تنزف دما و دموعا ، وشعوبها مشردة في الفيافي ، بل في كل حدب و صوب و حدث عن مقذوفات البحر ولا حرج!!
غزة العزة تستفيق من ركامنا
رغم كل ذلك ، ها هي غزة العزة تستفيق من ركامنا بهجوم أكتوبر 2023، لرد جزء من الاعتبار لأمة طال بالغدر ليلها، قام به شباب متوضئون في عمر الزهور بصدور عارية وأسلحة ألعاب يدوية بسيطة، لتكتسح مستوطنات الجيش الذي لا يقهر وقتلت اكثر من 1400 صهيوني وأسرت أكثر من 250 . لترد عليها بجنون و طيش إسرائيل بحرب على غزة و ضواحيها، بدعم دولي أمريكي أوروبي ياباني كندي هندي وتواطؤ عربي فاضح وجسر جوي وبري وبحري من السلاح والعتاد. استهدفت إسرائيل المغتصبة المدنيين العزل فقط، فقتلت حتى اللحظة أكثر من 30000 شهيدًا أغلبهم من النساء والأطفال، وما زالت الحرب مستمرة ولم تستطع إسرائيل تقديم انجاز عسكري واحد، وهي ماضية في مجازرها دون اكتراث بعويل بعض الأبواق الغربية التي تكيد لنا بمكيالين.
اليوم غزة الصغيرة ذات المساحة الضيقة 360 كم مربع محاصرة، دون كهرباء ولا ماء ولا دواء ولا وقود ولا اتصالات. و هي صامدة صمود الجبال، ورجالها جبابرة في مواجهة العدو، وشعبها متمسك بأرضه ومقاومته ويرفض التهجير، بل ويستعد للصيام و القيام و إتمام المهام، يا له من شعب عظيم !!.
في غمرة الأجواء الحزينة والدامية، رمضان و جاليتنا في الغرب
في غمرة الأجواء الحزينة والدامية هناك، يظلنا موسم عظيم ويحل بساحتنا شهر رمضان الكريم، بأيامه ولياليه الرّبانية المُباركة رحمةً من الله بنا وتكريما وقُربة لنا إليه وتشريفا. وها نحن اليوم نعد الأيام الباقية بل والساعات من شهر شعبان لنستقبل شهرا عظيما مُباركا من جديد شهر القرآن لعام 1445 هجرية. فأين المُشمرون السابقون؟! أين الصالحون المُتقون؟! هذا موسم التوبة والإستغفار هذا أوان الرجوع والإنكسار هذا أوان الإقبال والبِدَار.
أما هنا في بلاد الغرب فعدد المسلمين في أوروبا يرتفع و يزداد عقداً بعد الآخر، بسبب التكاثر أو التوسع الديموغرافي، وبسبب الهجرات المتواصلة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي نحو القارة العجوز، هرباً من الحروب، وبحثاً عن حياة كريمة تحترم الإنسان وحقوقه، أو بقصد التمدرس في جامعاتها، لكن الاحصائيات الرسمية تقول أن عدد الصائمين منهم في الشهر الفضيل يعد على الأصابع، منهم من يخاف أن يعلن على الملأ أنه صائم ومنهم من يخفي صيامه، ومنهم من يظهر أن الأمر لا يعنيه البتة، ولا يصوم عِلما أنه مسلم أبًا عن جد..
ومنذ عام 2011 مع بدء ثورات ما سمي يومها بـ “الربيع العربي”، ومن ثم الحروب الكثيرة التي تلته، سواء في سوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال وإثيوبيا وإريتريا، أو في أنحاء شمال أفريقيا، و اضطهاد مسلمي الروهينغا بميانمار والإيغور في الصين، ثم انسحاب الأمريكان من أفغانستان، ليرتفع عدد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين إلى أرقام عالية جداً، وقفت أمامها أوروبا في حيرة كبيرة، ووقفت معها أيضا مؤسساتنا الإسلامية في حيرة كبرى مماثلة، “خاصة أمام هذه الأفواج الجديدة من اللاجئين التي همها الدنيا، ولا يعرفون للمسجد سبيلا الا لأخذ الإفطار منه مجانا والتهامه قبل اذان المغرب في الحدائق والمنتزهات المجاورة “، على تعبير بعض المراقبين ..
“ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” ؟؟
وهنا علينا كدعاة ونخبة داعية لله بالتي هي أقوم، بل يجب أن نعيد حساباتنا و قراءة متأنية لخطوات من سبقونا على درب التضحية والفداء، وحري بنا أن نتوقف لما كتبه العلامة أبو الحسن الندوي، في منتصف أربعينيات القرن الماض، كتابه القيم “ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين” فخلص إلى : “أن الحضارة الغربية تحركت بعيدًا عن منظومة القيم الأساسية للحياة البشرية، وأنها اصطنعت قيمًا لها، تقرُّ فيها بعض القيم المضادة للقيم الأساسية الإنسانية “.. فيقول “وأصبح العقل الأوروبي محاميًا عن المادية لا يحكم على الأخلاق بالحسن والصحة إلا بمقدار جلبها للمنافع المادية، فأصبح الربح المادي هو الميزان للأخلاق والفارق بين الشر والخير”. “وأن فقدان كثير من المسلمين لثقتهم بدينهم وقيمهم وأنفسهم في سيرهم خلف الغربيين أثرًا سلبيًّا في نظرة العالم إلى الإسلام والمسلمين، إذ اتخذ العالم من فشل المسلمين دليلاً قاطعًا على عدم صلاح الإسلام لقيادة البشرية”..
“وأن البشرية في حاجة إلي قيادة جديدة بديلاً عن سيطرة اليد الأوربية الغربية على دفة القيادة ولن يتم ذلك إلاَّ بالعودة إلى الإسلام ونهضة المسلمين الشاملة وإيجاد الترابط المتين بين العلم والدين”.. “وأن هذا التحول هو الذي سيغير التاريخ وينقذ العالم من الساعة الرهيبة التي تنتظره”.
وأدرك ذلك الشهيد المفكر”سيد قطب” في كتابه “معالم في الطريق” عندما قال: “إن البشرية تقف على حافة الهاوية؛ بسبب إفلاسها في عالم القيم. فقيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال لا لأن الحضارة الغربية أفلست ماديًّا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والفكرية، ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره؛ لأنه لم يعد يملك رصيدًا من القيم يسمح له بالقيادة “..
وكما قال فيلسوف الإسلام وموقظ الشرق جمال الدين الأفغاني:” إن الدين هو قوام الأمم وبه فلاحها وفيه سعادتها وهو السبب المفرد لسعادة الإنسان وعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلي قواعد دينها والأخذ بأحكامه علي ما كان في بدايته”..” فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفسها في جميع الأرواح لأقرب وقت. فإذا قاموا وجعلوا أصول دينهم نصب أعينهم فلا يعجزهم أن يبلغوا في سيرهم منتهي الكمال الإنساني”.
ما العمل والهجمة على الإسلام لاتزال مستعرة ؟؟
وبعد مرور 76 عامًا على ما طرحه الندوي في كتابه :”نجد أن المسار الإنساني مازال يحتاج إلى عطاء الإسلام لامحالة ومازالت الهجمة على الإسلام مستعرة شديدة تريد إستلاب المنظومة الحضارية للأمة بربطها بمراكز الهيمنة الغربية عبر طغاة الداخل”.
” وأن الأمة تعيش حالة مخاض مؤلمة تنتقل بها من مرحلة كانت فيها مستضعفة مسلوبة الإرادة مختطفة من خصومها إلى مرحلة يقظة واستدعاء وإستجماع لقواها الذاتية تنتزع بها زمام أمرها وترد قرارها إلى شعوبها وتعمل على تخليق حالة إحياء جديدة نستطيع أن نبني عليها صعودنا الحضاري الذي ينطلق من روح الأمة وهويتها لتصبح الأمة مؤهلة للريادة الحضارية والتي لا يستقيم لها وجود دون السعي لتحقيقها“.
فهي لحظة متغيرة ومضطربة قلقة، لا نحن في مرحلة الإستضعاف التي كان من أهم معالمها هذا الإختراق الفكري غير المسبوق في تاريخ الحضارة الإسلامية والذي يسمح لطغاة الأمة في الداخل وخصومها في الخارج بإنفاذ مخططاتهم لإستعبادها وتقسيمها وتكريس ضعفها وتبعيتها ومهانتها، ولا نحن في مرحلة منعة وقوة نمتلك فيها إمكانات فرض إرادة الأمة وتحقيق مصالحها والتحرك نحو أداء أدوارها.
والسؤال المطروح الآن :ماذا قدَّم المسلمون ونخبهم كي يجنبوا الأمة هذا المصير البائس وما هو دورهم نحو تقديم النموذج الإسلامي الحضاري بعد أن تم تغييبه عن الواقع ؟
هذا هو الدرس بداية ونهاية بل و ذروة سنام قضيتنا اليوم وكل يوم في فلسطين أرض المعراج و باقي بلاد المسلمين..
نحن و رمضان وفلسطين أرض المعراج !!
وفي ظلّ أحداث أرض المعراج وحلول شهر رمضان، وفي هذه الظروف العصيبة ومُخلفاتها التي تشهدها فلسطين الجريحة، يستدعي منا الوقوف جنباً لجنب للتصدي للعدوان الغاشم على أهلها وأرضها وأبنائها. وما يحدث في غزة اليوم من تسديد وتوفيق المُجاهدين هو سند سماوي رباني يتنزل من السماء إلى أرض المعراج. وأن الباب إلى رب السماء مفتوحا دئما، الهدف الأسمى منه، وهو سند الله للضّعفاء و المضطهدين وهو على نصرهم لقدير، دون ريب و لا شك. ومما يثلج صدورنا، أن جسدت المُقاومة رسالة عز وفخر للأمة الاسلامية جمعاء لردع لكل عدوان مهما كانت قوته و جبروته.. إنهم “الفتية الذين آمنوا بربهم وزدناهم هدى”، هم الذين بعثوا فيها الأمل في التغيير الجذري وأنها قادرة على التحرر وتحرير المُقدسات وقادرة على ردع كل عدوان وطغيان و جبروت، فأهل فلسطين أحييوا أنفاس رجال ونساء الأمة مغلوبة ، وبات تحرير الأرض المُباركة على الطاولة وفي متناول كل مخلص يراه رأي العين. هَلا تدبرنا منهم رسالة العز هذه التي يزفها أهل فلسطين للأمة الإسلامية بدمائهم وعرقهم وإخلاص شبابهم؟! فلسطين هذه القطعة القدسية التي يُدمى جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها؟ ماذا قدمنا من التضحيات؟ هل أدينا أقل الواجبات؟! أو- العياذ بالله- نقول بكل أسف: ماذا حققنا من التنازلات؟
وهذا شاعر الثورة والثوار في الجزائر، المجاهد المفكر مفدي زكريا، يتغنى بالثورة ومجاهدينا، حري بأشبال فلسطين أن ينهلوا من معينه العذب، حيث أنشد، رحمه الله يقول ( استبدلنا كلمة الجزائر بفلسطين و نوفمبر بأكتوبر) :
إن (فلسطينَ) قطعةٌ قدسيّةٌ *** في الكون.. لحّنها الرصاصُ ووقّعا !.
وقصيدةٌ أزليّة، أبياتُهــــــــــــا *** حمراءُ.. كان لها (أكتوبرُ) مطلعــــا !.
نَظمتْ قوافيها الجماجمُ في الوغى *** وسقى النجيعُ رويَّها.. فتدفَّعا
غنَّى بها حرُّ الضّمير، فأيقظتْ *** شعباً إلى التحرير شمّر مُسرِعا
سمعَ الأصمُّ دويَّها، فعنا لها *** ورأى بها الأعمى الطريقَ الأنصعا.
الصوم كفاح وجهاد ميدانه حياة روحانية ربانية صافية، وقطوفها دانية
ذلك هو معنى الجهاد الحقيقي في الميدان، والصوم اليوم ككل يوم كفاح وجهاد مستمر يكون المسلم فيه في حياة روحانية ربانية صافية قائما لربه، قانتًا لمولاه معترفا بنعمة ربه عليه، خالصًا لله؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي تكفل بإعطاء الأمر والجزاء لأنها حالة منفردة بين الإنسان وربه لا يشاركه فيها مخلوق وهي أيضًا خالية من الرياء والمباهاة حينما يختلي الإنسان بينه وبين نفسه فيزداد تمسكًا وصبرًا وثباتًا لكي يقضي يومه في صلاة وقراءة وجهاد في الحياة، وليله في العبادة الخالصة لله. وهو في كل ذلك يردد بينه وبين نفسه: (اللهم لك صمت) كما جاء في الحديث القدسي:(يترك طعامه وشرابه من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها)، فما بالك بالمجاهد الذي باع لله نفسه، جَعَلَنا اللهُ وَ إيَّاكُم مِن عُتَقائِهِ مِن النَّار وَأَعانَنا جَمِيعاً عَلى الصِّيام والقِيَّام و َتِلاوَة القُرآنِ وبلَّغَنا وَإيَّاكم لَيْلة َالقَدْر وَرَزَقنا قِيَّامَها . اللَّهُم آمِيـــــــن..
ختاما نتوجه بالتهنئة للمؤمنين العاملين المجاهدين بقدوم شهر رمضان الكريم أعاده الله علينا وعلى الأمة الإسلامية بالنصر والتمكين.
كما نتوجه بالدعاء إلى الصامدين الصابرين خلف سجون الطغاة بالتهنئة بهذا الشهر الكريم الذي يحل عليهم ضيفا وهم في خلوة اصطفاهم الرحمن لها، ونسأل الله أن يعيد عليهم هذا الشهر الكريم وهم بيننا يقودون شعوبهم وبلدانهم في طريق الحرية والتقدم والازدهار.
كما لا ننسى أن نتوجه بالتهنئة بحلول الشهر الفضيل إلى المسلمين عامة في العالمين العربي والغربي وأهل الثغور في فلسطين خاصة، وإلى كل حر أبي في هذا العالم، لم يقبل الضيم على نفسه وأخذ على عاتقه أن يدافع عن حقوق المظلومين ويأخذ على يد الظالمين.. ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ – ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.