جمهورية شارل ديغول تنهار فوق رأس ايمانويل ماكرون

تتعالى المزيد من الأصوات في فرنسا مندّدة بالسياسة التي ينتهجها قصر الكيدورسي في المرحلة الراهنة، واعتلى منابر التنديد برلمانيون فرنسيون وشخصيات وازنة ومتّزنة، وإن كان التنديد يشمل جوانب عديدة من سياسة ماكرون المُفعمة بمواقف اليمين المتطرّف، غير أنّ عدم الرضى من السياسة المنتهجة اتّجاه الجزائر عجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي بشكل غير مسبوق، وصفها الكثير بأنّها حنين إلى الماضي، مطالبين في ذات الوقت الحكومة الفرنسية بالكفّ عن الالتفات إلى الجزائر، وضرورة التعامل معها كدولة مستقلّة ذات سيادة.

ويسجّل التاريخ أنّ الجزائر كانت منذ عقود المحور الرئيسي الذي تدور حوله التحوّلات السياسية الكبرى لأنظمة الحكم في فرنسا.فالظرف الراهن لا يختلف تماما عن ظروف سنة 1958، تاريخ سقوط الجمهورية الرابعة. آنذاك كانت ثورة نوفمبر المجيدة في أوجّها، وتداولت حكومات عديدة طيلة الأربع سنوات الأولى من الثورة، كان هدفها الوحيد هو الإبقاء على الجزائر فرنسية، لكن بسالة جيش التحرير الوطني وجبهته، كانت تُطيح بكلّ المخطّطات التي أشرف عليها المُقيم العام روبير لاكوست المُعيّن سنة 1956 خلفا لجاك سوستيل الذي فشل في الحدّ من المدّ الثوري، وكان التعويل على الحركى والقومية ضمن أهم الاستراتيجيات للقضاء على الثورة، بحيث اجتهدت الادارة الاستعمارية لجلب المزيد من ضعاف الأنفس والخونة، بُغية خنق تحركات جيش التحرير الوطني، ناهيك عن محاولة العودة إلى قانون الإدماج ثم عزل المواطنين وسياسة المسؤولية الجماعية التي أدّت إلى سحق القرى والمداشر بوحشية لا مثيل لها. إلا أنّ كلّ ذلك أدى إلى سقوط الجمهورية الرابعة وفرضت الجزائر شرعية كفاحها على المجتمع الدولي وبالتالي على الجمهورية الخامسة التي تأسّست على يد الجنرال ديغول.

واليوم لم يجد النظام السياسي للجمهورية الخامسة وجهة يهرب إليها بعد الإفرازات المكشوفة لتآكل أسس هذه الجمهورية، والتناقضات المفضوحة مع شعاراتها، ناهيك عن الوضع الداخلي المتأزم بحدّة غير مسبوقة، لم يجد، سوى الجزائر، وبطرق لا ترقى إلى الفعل السياسي، ليحاول ايجاد متنفّسا له، فإرسال بوعلام صنصال المحتال كما وصفه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، لم يكن سوى لعبة صبيانية مبتذلة، أرادت بها فرنسا لفت الرأي العام نحو الجزائر، بحجة قمع حرية التعبير، والواضح أنّ قضية صنصال هي قضية حرية العدالة في الجزائر، إذ مارست السلطات القضائية مهامها بتطبيق القانون فيما يتعلّق بالمساس بوحدة الأمة وسلامة التراب الوطني، ورغم محاولة الضغط على الجزائر على طرق التحرّش، إلا أنّ لا فرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي، تمكّنت من فرض رأيها على سيادة القانون الجزائري، ليجد ماكرون نفسه في صلصال من حمإ مسنون…

والخسائر التي تكبدتها فرنسا تواليا في الفترة الأخيرة، زادتها تأزّما وعمّقت فجوة الاختلافات الداخلية، فالتصريح الذي أدلى به ماكرون بخصوص قضية الصحراء الغربية، والمتناقض تماما مع توجّهات الأمم المتحدة التي تعتبر فرنسا إحدى أهم الدول بها، لعضويتها الدائمة بمجلس الأمن، كان من الأخطاء الجسيمة التي انتشى بها ماكرون معتقدا أنّه حقّق انجازا كبيرا ضد الجزائر غير أنّ الدائرة دارت عليه وزادت الطين بلة، فإن كان وهم الحكم الذاتي للصحراء الغربية تحت السيادة المزعومة للمغرب، هو أصلا وهم فرنسي، فكان من المنتظر أن يقوم ماكرون بالعمل على توجيه موقف بلده نحو الحقيقة التاريخية والقانونية للإقليم المحتل، إلا أنّه حاول تكريس وضع استعماري يُحسب على فرنسا كأهم طرف يعمل على تعطيل عمل الأمم المتحدة في المنطقة.

كما أنّ الهزائم التي مُنيَت بها فرنسا في افريقيا لم تكن سهلة الهضم، لآثارها البالغة والمباشرة على الاقتصاد الفرنسي، فرهان ماكرون للعودة إلى افريقيا عن طريق المغرب لا يختلف عن وهم الحكم الذاتي، فالانتفاضة ضد التواجد الفرنسي في افريقيا خصوصا  مالي و بوركينافاسو والنيجر انخرطت فيها شعوب المنطقة بعد الفشل في تحقيق الأمن  والتقدّم الاجتماعي المزعوم، فكلّ ما تحقّق هو نهب رهيب لخيرات ومقدرات هذه البلدان، أفضى إلى الحرمان الاجتماعي والتدهور السياسي الذي فتح الباب لسيطرة الجماعات الإرهابية.

تجتمع كلّ هذه المعطيات، وأخرى، منها داخلية في فرنسا، وحتى داخل الحرم الرئاسي، في قضية زوجة الرئيس، السيدة الأولى لفرنسا المشكوك في جنسها، والتي أخذت أبعادا بالغة الحدّة بعد تناول الموضوع من طرف صحفية أمريكية وعد الرئيس ترامب بحمايتها. هذه المعطيات كلّها تجتمع لتضع الجمهورية الخامسة على بركان لم يَعُد راكدا، حيث حمَمه بلغت فوْهته..

حسان خروبي

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى