آخر الأخبار

الحرب الإعلامية بين إيران والكيان الإسرائيلي …صراع السرديات في ظل تصاعد الاشتباكات

في ظل التصعيد العسكري المتسارع وغير المسبوق بين طهران والكيان الإسرائيلي، والذي شمل ضربات صاروخية وهجمات جوية وعمليات استخباراتية متقدّمة، تتجلّى جبهة أخرى لا تقلّ خطورة عن جبهات القتال التقليدية، وهي جبهة الحرب الإعلامية. هذه الجبهة، التي باتت تتوسّع وتتعمّق مع الاستخدام الكبير للتكنولوجيا الرقمية وأدوات الذكاء الاصطناعي، تحوّلت إلى ساحة مركزية في معركة السرديات، حيث تُخاض المعارك بالكاميرا والمقالات والتقارير الصحفية، والفيديوهات المولدة بتقنية الذكاء الاصطناعي المتقدّم، قبل أن تُخاض بالصواريخ والطائرات المسيّرة.

في هذا السياق، لا تقتصر أهداف الإعلام على تغطية العمليات أو حشد الدّعم السياسي لأي عملية عسكرية، بل بات يُستخدم كأداة استراتيجية لفرض الرواية، وتوجيه الرأي العام الإقليمي والدولي، ومحاولة كسب “الشرعية الأخلاقية” واحتكار رمزية “الضحية” أو “المقاوم”، وفقًا لما تقتضيه متطلبات كل طرف في هذه الحرب المعقدة.

ثغرة إيران الإعلامية… توظيف الخطاب الأيديولوجي في زمن الحرب

تعتمد إيران في استراتيجيتها الإعلامية على سردية “المقاومة والممانعة”، حيث تسوّق لنفسها كقوة إقليمية قائدة لمحور المقاومة، واقفة في وجه “الهيمنة الصهيو أمريكية”، متبنّية خطابًا عقائديًا يستند إلى رمزية دينية وتاريخية عميقة. وتُوظّف طهران هذا الخطاب ليس فقط في دعمها العلني لحركات مثل “حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، و”أنصار الله”، بل أيضًا في الترويج لبرامجها العسكرية ومشاريعها التطويرية للطاقة النووية، وذلك من أجل كسب تأييد داخلي يضمن استقرار نظامها السياسي في ظل الضغوط المتزايدة والعقوبات المفروضة عليها من قبل الغرب.

غير أن هذا الخطاب، رغم مشروعيته ما دام لا يهدّد الأمن والسلم الدوليين، يوقعها في مأزق مع مختلف القوى المعادية لتوجّهاتها العقائدية في المنطقة. يتحول الأمر تلقائيًا إلى ما يُطلق عليه الخبراء الأمنيون “المأزق الأمني”، الذي يرهن أمن المنطقة واستقرارها. حين تُقدّم إيران نفسها كفاعل إقليمي يسعى لتحقيق التوازن الاستراتيجي، تجد نفسها في مواجهة سردية مضادة – إسرائيلية وغربية – تضعها في خانة “الدولة المارقة”، وتربط خطابها الديني، المتزامن مع إبراز قدراتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية، بمفاهيم التطرّف وتهديد الأمن الإقليمي والدولي.

على هذا الأساس، تمكّن الكيان الإسرائيلي من استغلال هذه الثغرة لإعادة تشكيل صورة إيران في الذهن الغربي والخليجي، على أنها دولة تسعى لامتلاك السلاح النووي والأسلحة الدقيقة بغرض فرض توجّهها العقائدي بلغة القوة، وبالتالي تصبح دولة تهدّد الاستقرار الإقليمي والدولي. من جهة أخرى، استغل الكيان الإسرائيلي الرد الإيراني القوي من خلال الصور التي تظهر قوة إيران وقدراتها النارية في الرد على الاعتداءات.

كما أوضح الكاتب الصحفي والإعلامي المصري في مقال له في صحيفة “اليوم السابع”، أن إسرائيل تستغل الصورة البصرية بذكاء لتصوير نفسها كضحية، من خلال بثّ مشاهد الأطفال الخائفين في الملاجئ والحرائق الناتجة عن الصواريخ الإيرانية، لكسب تعاطف الغرب وتحريض الرأي العام الغربي ضد إيران.

الكيان الإسرائيلي… توظيف المنظومة الإعلامية لتحقيق “الردع البصري”

على الجانب الآخر، يستغل الكيان الإسرائيلي في إدارته للحرب منظومة إعلامية شديدة التعقيد، تجمع بين التكتيك العسكري والدبلوماسي والإعلامي. فالإعلام الإسرائيلي، تحت إشراف مباشر من الأجهزة الأمنية والعسكرية، لا يكتفي بنقل الوقائع، بل يُعيد إنتاجها ضمن سردية محسوبة، تُظهر إسرائيل كـ”ضحية” تتعرّض لهجمات من دولة مارقة تسعى لضرب استقرار المنطقة.

يعتمد هذا النموذج الإعلامي على ما يمكن تسميته بـ”المصداقية الانتقائية”، أي نقل المعلومات المدعّمة بالصور والأدلّة، لكن ضمن إطار يخدم الرواية الرسمية. وتُستثمر هذه الأدلة في التوقيت المناسب، بما يضمن التأثير الأقصى على الرأي العام الغربي والدولي، وهو ما يُعرف بتكتيك “الرّدع البصري”، حيث تُستخدم الصور والفيديوهات لإثبات التهديد الإيراني، وتبرير الرّد العسكري.

يحظى الكيان الإسرائيلي بدعم واسع في وسائل الإعلام الغربية، لا سيما الأمريكية، حيث تُروّج روايتها عبر قنوات مؤثرة تشمل مراكز أبحاث، مقالات رأي، ومداخلات متلفزة لخبراء ومسؤولين. هذا التمكّن من أدوات التأثير يمنح الكيان هامشًا أكبر في المناورة وكسب شرعية أفعاله، حتى في ظل تجاوزات عسكرية يعاقب عليها القانون الدولي وتخالف كل المواثيق والاتفاقيات الدولية المؤطرة للحرب.

رغم امتلاك الكيان لأدوات التأثير والاختراق الإعلامي، فإنه يواجه تحدّيات في إقناع الرأي العام بخطابه وسردياته الكاذبة، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالهجمات على البنى التحتية واستهداف المدنيين.

إن الصراع بين إيران والكيان الإسرائيلي لا يمكن اختزاله في المواجهة العسكرية وحدها، بل يمتد إلى مستويات أعمق وأكثر تعقيدًا، تتداخل فيها مفاهيم القوة الناعمة، والدعاية السياسية، والحرب النفسية. في عالم باتت فيه الصورة تحدّد مسارات السياسة، والخبر يُعيد تشكيل الوعي الجمعي، تظل المعركة الإعلامية هي ساحة الحرب الحقيقية التي قد تحسم نتائج المواجهة، قبل أن ينفجر أيّ صاروخ.

مهدي الباز

الحرب الإعلامية بين إيران والكيان الإسرائيلي ...صراع السرديات في ظل تصاعد الاشتباكات

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى