آخر الأخبار

الجزائر والولايات المتحدة الأمريكية.. نحو تقارب بمبدأ رابح رابح لبناء آفاق استراتيجية مشتركة

حسان خروبي

لقد بات جليّا أنّ الولايات المتّحدة الأمريكية تسعى لتمتين علاقتها بالجزائر والإعداد لآفاق استراتيجية، مُتجاوزة بعض الخلافات الجوهرية التي لم تسمح بها مع الكثير من الدّول. فالشريك الجزائري بالغ الأهمية لواشنطن التي بدأت فعليًا في الاستثمار في تعميق العلاقة الثنائية.

فمنذ أكثر من عقد، تتزايد المؤشرات على أن الجزائر، رغم تمسّكها التاريخي بمبدأ عدم الانحياز والسيادة الصارمة، وتمسّكها الراسخ برفض التطبيع مع الكيان الصهيوني ودفاعها المُستميت على القضية الفلسطينية، باتت تحتل موقعًا متقدّمًا في الرؤية الاستراتيجية للولايات المتحدة في شمال إفريقيا والساحل.

وأكّد معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (WINEP)، المعروف بقربه من دوائر صنع القرار الأمريكي ودفاعه المُتشدّد عن المصالح الإسرائيلية، على أنّ الجزائر تتمتّع بسمعة راسخة في مقاومة التغيير والتنازل عن مبادئها وتتمسّك بشكل عقائدي بالسيادة والاستقلال، مما سيتطلب “احترامًا أمريكيًا صريحًا للجزائر”.

ونشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، خلال شهر جويلية الجاري، تقريرًا بعنوان “التفاعل الاستراتيجي الأمريكي مع الجزائر: مسارٌ في ظلّ ديناميكيات عالمية متغيرة”. قدّم فيها لصانعي القرار الأمريكيين إطارًا دقيقًا للعمل مع الجزائر مبني على تعزيز التعاون القطاعي، واكتساب حضور بارز بين النخب الاقتصادية والأكاديمية، وتهيئة بيئة سياسية أكثر تقبلًا.

كما حثّ تقرير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الولايات المتحدة بالاستفادة من فرصة اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة ثانية في المدارس الجزائرية، والحاجة الوطنية لأساتذة مؤهلين، وهذا بتوسيع تمويلها ليس فقط للبرامج التعليمية، بل أيضًا في مجالات مثل إدارة المياه الزراعية. من شأن مثل هذه البرامج أن تحسّن نظرة الجزائريين إلى الولايات المتحدة، خاصة وأن غالبية السكان يميلون حاليًا إلى تفضيل الصين، حسب نص التقرير. الذي أضاف أنّ هذه التوصيات المطروحة تبدو مخالفة للنهج المعتاد للدبلوماسية والتجارة الأميركية. غير أن اعتماد الجزائر التاريخي على الاكتفاء الذاتي، ومواردها الطبيعية الكبيرة، قد حماها نسبيًا من آثار الرسوم الجمركية وخفض المساعدات.

معهد واشنطن: الجزائر بلد غني بالفرص

 ولهذا، فإن الخطوات المقترحة قد تكون أكثر قابلية للتطبيق في الجزائر مقارنةً بشركاء آخرين تعتمد عليهم واشنطن تقليديًا، مثل المغرب.

واعتبر معهد واشنطن الجزائر بلد غني بالفرص، ويمتلك نقاط قوة عديدة منها الانخراط في الوساطة الدبلوماسية، والموارد الطبيعية الهامة، والثقافة الشبابية النشطة.

وإن كان التقرير يصف ثبات الجزائر على مبادئها بنوع من “الجمود”، ويطرح تساؤلا إن كانت الجزائر ستنحو في السنوات القادمة إلى الاستمرار في “الجمود” وسط التحديات المحلية والدولية، أم ستسلك طريق الإصلاح التدريجي الذي يؤدي إلى تغيير دائم؟ إلا أنّه يحثّ الولايات المتحدة للاهتمام لأسباب عدّة، لخّصها التقرير في الشروع الفعلي للولايات المتحدة في الاستثمار لتعميق علاقتها الثنائية مع الجزائر، والأخيرة “بدورها سواء كرد فعل أو بمبادرة ذاتية أظهرت مؤشرات على رغبتها في تحسين العلاقات مع واشنطن”. في الوقت ذاته، تحاول الجزائر مثل العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الاستفادة من الانخراط الاقتصادي المتزايد للصين على المستوى العالمي، يُشير التقرير.

لكن الأهم من ذلك، أن الجزائر يمكن أن تكون شريكًا أمنيًا أساسيًا في منطقة تشهد اضطرابًا متزايدًا. إن تعزيز العلاقات الثنائية يصبّ في مصلحة البلدين لهذه الأسباب وحدها، وستساعد على بناء أساس متين من الثقة وهو أمر لا تمنحه القيادة الجزائرية بسهولة، يعترف تقرير معهد واشنطن.

كما أنّ التصدّعات التي تواجهها الولايات المتحدة في تحالفاتها التقليدية مع أوروبا، منذ تولي الرئيس ترامب ولايته الثانية تتداخل بشكل وثيق مع الجزائر، التي تشهد علاقتها مع أوروبا تصدّعات أيضا.

معهد واشنطن: الجزائر تُثير اهتمام القوى الإقليمية المتوسطة وكذلك القوى الكبرى

ويرى التقرير أنّ الجزائر تفرض نفسها خارج منطقة شمال إفريقيا، بحجمها الكبير ومواردها الطبيعية، وعمليات شراء الأسلحة الضخمة التي تقوم بها، اهتمام القوى الإقليمية المتوسطة مثل تركيا وإيران، وكذلك القوى الكبرى مثل روسيا والصين.

ورغم أن التنافس بين هذه القوى يشمل كامل شمال إفريقيا، فإن الجزائر تُعد أكثر عرضة لهذا التنافس، نظرًا لتاريخها القائم على مبدأ عدم الانحياز، بعكس جارتَيها المغرب وتونس اللتين تبنّتا تقليديًا توجّهًا غربيًا. غير أنّ الجزائر ظلت محافظة على مسافة واضحة من التبعية، مستندة إلى تاريخها النضالي ضد الاستعمار ، وتقاليدها الدبلوماسية المبنية على عدم التدخل واحترام السيادة.

كما أن موقع الجزائر كواحدة من أكبر منتجي الطاقة في إفريقيا، وموقعها الاستراتيجي على طول طريق التجارة البحرية في البحر الأبيض المتوسط، يجعلان منها نقطة محتملة لتصاعد التنافس الدولي.

يوضّح التقرير من خلال هذا أنّ الجزائر بموقعها الاستراتيجي ستظلّ محطّة اهتمام الدول الكبرى للاستفادة من فرص الاستثمار وربط علاقات ثنائية مميّزة، ما يجعل معهد واشنطن للشرق الأدنى يُقدّم توصيات لصناع القرار في الولايات المتحدة بدعم مسار إيجابي في العلاقات الثنائية مع الجزائر. وهذا بدعم (“جزائر ناشئة”، تتبنى تدريجيًا شراكات دولية وإصلاحات داخلية، ما يُؤدي إلى اقتصاد أكثر ديناميكية وإنتاجية، ومجتمع مزدهر، ودور مؤثر على المستوى الإقليمي والعالمي.)

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تُعطِ أولوية لحل النزاعات في إفريقيا، حسب التقرير ذاته، إلا أن واشنطن قد تجد فرصة للاستفادة من حرص الجزائر على استعادة صورتها الدولية كوسيط سلام فعّال في القارة. وهذا بالاستفادة من سياسة الجزائر الخارجية المتمسّكة بمبدأ الحلول السلمية للنزاعات، حيث سعت الجزائر إلى لعب دور الوسيط في عدد من النزاعات الإفريقية، بما في ذلك ليبيا، ومالي، وإريتريا/إثيوبيا، والسودان، يُوضّح التقرير.

معهد واشنطن.. الأداة التي خضعت لقوة الجزائر

ويُعدّ معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (The Washington Institute for Near East Policy)  الذي هو مركز أبحاث (Think Tank) أمريكي تأسس عام 1985 ، من طرف لجنة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية ، أهم أداة لصناعة السياسة الأمريكية في المنطقة العربية، ومع ذلك لم يُشر إطلاقا في تقريره هذا إلى أيّة توصية أو اقتراح برنامج للتمهيد لأية محاولة للتطبيع مع الجزائر، على خلاف ما يقوم به مع معظم الدول العربية التي يتناولها بالدراسة.

غير أنّ هذا التقرير الذي أعدّته الباحثة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الدكتورة سابينا هينبرج (Sabina Henneberg)، المعروفة باشتغالها على حالات عديدة في شمال إفريقيا، خصوصا تونس وليبيا، يحمل التقرير لُغما مخالفا للوائح الأمم المتحدة، إذ لمّحت إلى أنّ الموقف الأمريكي بخصوص قضية الصحراء الغربية لا رجعة فيه، فأوردت في تقريرها ” إذا اقتنعت الجزائر بذلك، فقد تلعب دورًا محتملاً في إقناع جبهة البوليساريو بقبول نموذج تفاوضي للحكم الذاتي، انطلاقًا من خطة الحكم الذاتي المغربية.” معترفة في الوقت ذاته أنّ هذا النهج غير مُرجّح بالنسبة للجزائر، ما يتطلّب “احترامًا أمريكيًا صريحًا للجزائر” حسب ما أوردت في تقريرها.

تمنح الشهادات الواردة في التقرير الجزائرَ الأدوات التفاوضية لتعزيز علاقاتها ودورها الدولي بشكل مخالف عن مُعظم الدّول التي تتعامل معها الولايات المتحدة الأمريكية، فالخصوصية الجزائرية الموصوفة بالثبات على مبادئها، والتعامل مع استقلالها وسيادتها بشكل عقائدي، يُتيح لها نَفَسا من القوّة الكامنة لجلب استثمارات حقيقية انطلاقا من مبدأ رابح رابح. كما أنّ المسافة التي تتّخذها مع المحور الغربي منذ استقلالها، والتباعد المسجّل مؤخّرا مع الحليف التقليدي لأسباب أبرزها الوضع في الساحل وأشكال التدخّل التي رفضتها الجزائر، والوساطة السلمية التي تلعبها الجزائر في الكثير من الملفات القارية والدولية، سيسمح للأخيرة بتموقع دولي جديد، وأفق جيوسياسي هام وفق مصالحها الوطنية، ويُتيح للولايات المتحدة باكتشاف شريك جديد موثوق، لذا يوصي تقرير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى بشكل ضمني، بأنّ على الولايات المتحدة أن تتعامل مع الجزائر كشريك سيادي مستقل، لا كامتداد لمحور تابع. فبناء الثقة مع الجزائر يتطلب احترام حساسياتها التاريخية، وتقديم شراكة متوازنة في ملفات الأمن والاقتصاد والدبلوماسية، حسب ذات التقرير.

كما أنّ ما يجب الإشارة إليه، أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تأخذ بعين الاعتبار المقياس الداخلي في بناء علاقات ذات ثقة، فالتقرير توقّف عند محطّات داخلية عديدة وعرّج على حراك 2019، وتداعياته في حياة المواطنين وفي الحياة السياسية والإعلامية، بحيث ربط الحراك بالتعديل الدستوري لعام 2020 وقانون الإعلام الأخير، فخلق أجواء داخلية مناسبة سيكون له تأثير مباشر للعلاقات الجزائرية سواء مع الولايات المتحدة الامريكية أو غيرها من الشركاء المحتملين.

حسان خروبي

PolicyNote159Henneberg

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى