الأهمية الاستراتيجية للساحل في حسابات الأمن القومي الجزائري
مهدي الباز

يمثّل الساحل الإفريقي امتدادًا طبيعيًا للصحراء الجزائرية وعمقًا استراتيجيًا جنوبيًا، حيث تمتد حدود الجزائر مع دول المنطقة لأكثر من 6343 كلم، وتتقاطع معها روابط ثقافية وتاريخية ودينية متجذّرة. هذا الارتباط العضوي يجعل أي اضطراب في الساحل مسألة تخصّ الأمن القومي الجزائري بشكل مباشر، وليس مجرد ملف دبلوماسي خارجي.
وفي السنوات الأخيرة، تزايدت حدّة الأزمات في الساحل بشكل متسارع، مع انتشار الإرهاب العابر للحدود، وتهريب السلاح والمخدرات، والانقلابات العسكرية المتكرّرة التي زادت هشاشة المؤسسات الوطنية. وفي ظل هذا الوضع المعقّد، تتبنى الجزائر مقاربة واضحة مفادها أن أي حلّ مستدام يجب أن ينبع من داخل الدول ذاتها، بعيدًا عن التدخلات الخارجية التي غالبًا ما تزيد الصراعات حدة وتعرقل أي مسار للتوافق الداخلي.
عبث الطغمة العسكرية وتفاقم الهشاشة الداخلية
تشكّل الطغمة العسكرية في بعض دول الساحل، أحد أبرز أسباب تعميق الفوضى وتفجير الأزمات. فالانقلابات المتكرّرة والتدخل في عمل المؤسسات المدنية يؤديان إلى توقف مسارات المصالحة الوطنية، وإضعاف أجهزة الدولة، وخلق فراغ سياسي وأمني يسمح للقوى الخارجية بالتغلغل واستغلال الوضع لتحقيق مصالحها الخاصة. هذا العبث السياسي والعسكري يفاقم الانقسامات العرقية والجهوية والاثنية، ويحيل أي خلاف داخلي إلى تهديد إقليمي واسع، ما يجعل الحلول الوطنية أكثر تعقيدًا ويزيد الحاجة إلى وساطات رصينة وفاعلة.
التدخلات الخارجية وتعقيد المشهد الإقليمي
تتسابق بعض القوى الأجنبية لفرض أجنداتها الخاصة في منطقة الساحل، مستغلة هشاشة الدول وضعف مؤسساتها. وقد ساهمت هذه التدخلات، المباشرة وغير المباشرة، في زيادة حدّة الصراعات وعرقلة أي مشاريع للتسوية الداخلية. وتشير معطيات متطابقة إلى أن تدخلات أطراف خارجية تُغذّي الانقسامات وتستثمر في الأزمات بدل حلّها، ما يجعل الساحل ساحة مفتوحة لصراعات النفوذ ومسرحًا للتجاذبات الجيوسياسية التي تُفاقم هشاشة المجتمعات وتُضعف الدولة الوطنية.
النموذج الإماراتي في تغذية الأزمات وتوسيع دائرة الفوضى
تكشف العديد من التقارير الإعلامية العربية و الدولية، أن الإمارات العربية المتحدة تلعب دورا مباشرا في تأجيج الوضع في الساحل، لاسيما في مالي، من خلال تقديم دعم مالي ولوجستي لمرتزقة فاغنر وهو ما ساهم في تعقيد المشهد الأمني بالساحل ككل. وتذهب التقارير إلى حدّ تأكيد تمويل أبوظبي لوجود مجموعات مسلحة داخلية و خارجية بمالي، وهو ما انعكس على قضايا حساسة، من بينها حادثة اختطاف الرهينتين الإماراتيتين، التي أظهرت مؤشرات على ارتباطهما بالأجهزة الأمنية الإماراتية، لتسارع أبوظبي إلى دفع فدية في محاولة لاحتواء الفضيحة قبل اتساعها.
ولا يقتصر هذا الدور على مالي، بل يمتد إلى ليبيا والسودان، حيث دعّمت أبوظبي ميليشيات مسلّحة، مثل ميليشيا “الدعم السريع” في السودان، التي ارتكبت جرائم اهتز لها الضمير الإنساني. هذه الأنشطة، وفقًا لمراقبين، ليست سوى جزء من سياسة توسّعية تسعى لخلق بؤر توتر جديدة وتوسيع النفوذ على حساب استقرار الشعوب الإفريقية.
الوساطة الجزائرية: مقاربة إفريقية للحلول المستدامة
في مقابل هذا المشهد المضطرب، تواصل الجزائر العمل وفق سياسة خارجية راسخة تقوم على احترام سيادة الدول، ودعم المصالحة الوطنية، وتشجيع الحلول الحوارية بدل التدخلات الأجنبية. وقد جسّدت الجزائر هذه المبادئ من خلال دورها المحوري في اتفاق السلم والمصالحة في مالي سنة 2015، حيث نجحت في جمع الأطراف المتنازعة ضمن مسار تفاوضي مكثّف أفضى إلى اتّفاق متوازن يعزّز الدولة المركزية دون إقصاء للمكونات المحلية.
كما تواصل الجزائر نشاطها عبر مؤسسات الاتحاد الإفريقي ومجلس السلم والأمن الإفريقي، في الدفع نحو “أفرقة الحلول” كأحد أهم المبادئ لضمان مصداقية ومتانة أي عملية سياسية، بعيدًا عن التدخلات الأجنبية التي غالبًا ما تفرض أجنداتها بعيدة عن مصالح الشعوب.
الرؤية الأمنية الجزائرية: توازن بين المبادئ والواقعية
تعتمد الجزائر رؤية شاملة في معالجة أزمات الساحل، تتجاوز البعد الأمني الضيق لتشمل التنمية الاقتصادية، ودعم المؤسسات الوطنية، وتعزيز سيادة القرار الداخلي. فالجزائر تؤمن بأن الاستقرار الحقيقي لا يمكن تحقيقه بالسلاح وحده، بل عبر بناء مؤسسات قوية، وتعزيز الثقة بين مكونات المجتمع، وخلق بيئة سياسية تسمح بظهور حلول دائمة نابعة من الإرادة الشعبية.
وتتميّز السياسة الجزائرية بالتوازن بين الواقعية السياسية والالتزام بالمبادئ، فهي تحمي أمنها القومي دون أن تتخلى عن ثوابتها الراسخة، وترفض منطق الهيمنة أو الإملاءات الخارجية، معتبرة أن الحلول المفروضة من الخارج لا تجلب إلا مزيدًا من الأزمات.
الجزائر صمام أمان في الساحل الإفريقي
تُظهر التجربة الجزائرية في الساحل نضجًا دبلوماسيًا لافتًا، يقوم على الوساطة الفاعلة والالتزام الثابت بالمبادئ، ويضع الجزائر كأحد الأعمدة الأساسية للاستقرار في المنطقة. فالجزائر تُعدّ الصوت الأكثر اتساقًا في الدفاع عن القرار الإفريقي والحلول النابعة من الإرادة الوطنية، وهي مقاربة تمنح الشعوب حقّها في تقرير مصيرها بعيدًا عن التدخّلات التي تُهدّد أمن المنطقة وتنميتها.
وفي ظل تزايد رغبة التدخل الخارجي، تظل الجزائر ركيزة أساسية للأمن الإقليمي، وصمام أمان يحافظ على استقرار الساحل ويدعم خيارات الشعوب في بناء مستقبل آمن ومستدام.
