آخر الأخبار

غار جبيلات من الراحل بومدين إلى الرئيس تبون… حين تُبعث أحلام الوطن من رحم الصحراء

من أعماق الرمال الساخنة، ومن صمت الصحراء الممتدة كحلمٍ لا ينتهي، ينبثق منجم غار جبيلات، لا بوصفه كنزًا معدنيًا فحسب، بل كرمزٍ حيٍّ لجزائر تشقّ طريقها بكلّ سيادة بيدٍ من فولاذ وإرادة من نار. هنا، حيث لطالما خبّأت الأرض سرّها الثقيل، تنهض المشاريع الكبرى كأغاني التحرير الأولى، وتعود الأصوات التي بشّرت بالاستقلال لتتجسّد في خطوط حديدية، تُشقّ كما لو أنها تكتب المستقبل لجزائر جديدة منتصرة.

غار جبيلات ليس منجمًا فقط… إنه وعد مؤجل أطلقه هواري بومدين ذات حلم، وها هو الرئيس عبد المجيد تبون يفي به في زمن أصبحت فيه السيادة الاقتصادية مطلبًا لا شعارًا. في قلب الجنوب الغربي، حيث كانت الخريطة تنتهي، تبدأ الجزائر اليوم قصة جديدة، محمّلة بالحديد، مشتعلة بالطموح، ومتشبّعة بحبّ الوطن.

لم يكن منجم غار جبيلات مجرّد منجم معدني في قلب الصحراء، بل ظلّ لسنوات عنوانًا لتناقض لافت… ثروة ضخمة محاصرة في عزلة جغرافية، وحلم وطني مؤجل انتظر عقودًا حتى تتهيأ ظروف استثماره بإرادة سيّدة شحذها من جديد الرئيس عبد المجيد تبون.

اليوم، وقد انطلقت الأشغال بوتيرة متسارعة لإنجاز الخط الحديدي الرابط بين بشار وغار جبيلات، تعود إلى الواجهة أسئلة السيادة، ودلالات التحوّل الاقتصادي في الجزائر نحو الجنوب، حيث لم يعد الحديث عن المنجم مجرد استعارة عن التطلّعات المؤجلة، بل أصبح تجسيدًا فعليًا لتحوّل جيواستراتيجي واسع النطاق.

من الحلم إلى الهندسة الواقعية

حين تبنى الرئيس الراحل هواري بومدين حلم استغلال غار جبيلات، لم يكن الأمر محصورًا في استثمار اقتصادي صرف، بل في مشروع سيادي يهدف إلى تحرير القرار الوطني من الارتهان لمراكز التصدير والاستيراد التقليدية. لكن العقبات التكنولوجية والمالية وحتى الجيوسياسية حالت دون تجسيده آنذاك.

الرئيس عبد المجيد تبون أعاد إحياء هذا الحلم، ولكن برؤية عملية تستند إلى خلق البنية التحتية أولًا، عبر مدّ شريان سككي يتجاوز 900 كلم، في واحدة من أضخم المشاريع اللوجستية في الجنوب الغربي. الرسالة هنا واضحة: السيادة لا تُعلن، بل تُبنى عبر المشاريع الكبرى.

لماذا غار جبيلات الآن؟

توقيت استغلال المنجم ليس صدفة. العالم يعيش سباقًا محمومًا على المعادن الإستراتيجية، والحديد أحد أعمدة الصناعات الثقيلة. والجزائر، التي طالما اكتفت بدور المورّد للطاقة، بدأت تفتح جبهة جديدة في الموارد الصلبة، ليس فقط لضمان أمنها الصناعي، بل لتتحول إلى مصدر إقليمي لمادة حيوية تزداد أهميتها في ظل تحولات سلاسل التوريد العالمية.

فغار جبيلات، باحتياطي يفوق 3.5 مليار طن، ليس مجرد منجم، بل خزان جيواقتصادي نادر يمنح الجزائر موقعًا تفاوضيًا جديدًا في العلاقات التجارية الدولية.

السكة الحديدية: من البِنية إلى البُنية

حين يُقال إن السكة الحديدية هي العمود الفقري لهذا المشروع، فذلك لا يقتصر على المعنى الفيزيائي لنقل الخام، بل يُشير إلى تحوّل في البنية الاقتصادية للمنطقة.

الخط السككي، بتقنياته الحديثة وقدرته على تحريك آلاف الأطنان، يُعيد تعريف الجنوب الجزائري: من فضاء مهمّش إلى محور اقتصادي منتج، مرتبط بالشمال وبآفاق تصديرية نحو الساحل وغرب إفريقيا.

ولا يقل رمزية عن ذلك مشاركة الشركات الوطنية بقوة في هذا الورشات، على غرار “كوسيدار”، “إنفرافير”، و”إنفراراي، ما يؤسّس لتراكم خبرات محلية في مشاريع البنية التحتية الضخمة، وينقل الصناعة الوطنية من الهامش إلى القلب.

الشراكة مع الصين: بين التاريخ والاستثمار

وجود شركة CRCC الصينية في هذا المشروع ليس مفاجئًا. العلاقة الجزائرية–الصينية التي تأسست على دعم الحركات التحررية، تطوّرت لتُصبح اليوم أحد أعمدة الشراكة الاقتصادية جنوب–جنوب.

لكن ما يُلفت هنا ليس فقط التمويل أو العتاد، بل نقل التكنولوجيا والإنتاج المحلي للعوارض الخرسانية، وهو مؤشر على نضج العلاقة وتحوّلها من مقاولة إلى شراكة.

الجزائر تُعيد رسم خريطتها الصناعية

ما يُبنى اليوم في غار جبيلات لا يقتصر على سكة ومنجم، بل يُعيد تشكيل الخريطة الاقتصادية للبلاد. منطقة مثل تندوف، لطالما ارتبطت بالحدود والمخيّمات والبعد الأمني، تتحوّل إلى قطب صناعي–منجمي، يقود ديناميكية تشغيل واستثمار وربط إقليمي.

والأهم، أن هذا المشروع يمهد لظهور صناعة حديدية محلية تُغني الجزائر عن استيراد مستلزمات صناعية ضخمة، وتُعزز ميزانها التجاري، وتفتح أبواب التصدير نحو القارة.

إفريقيا: الامتداد الطبيعي للمشروع

ليس غريبًا أن تتجه بوصلة المشروع نحو موريتانيا، الزويرات تحديدًا، فذلك امتداد طبيعي لفلسفة الدولة الجزائرية في تعزيز موقعها كجسر لوجستي بين المتوسط وعمق إفريقيا.

الربط الطرقي والسككي لا يعني فقط تجارة متبادلة، بل يعني تكاملًا اقتصاديًا يمكن أن يؤسس لممر تنموي حقيقي بين الجزائر ودول الساحل، في وقت تبحث فيه إفريقيا عن نماذج جديدة للتكامل خارج الأطر الكلاسيكية التي تكرّس تبعيتها.

السيادة الاقتصادية… من الحلم إلى الأبعاد الواقعية

ما يُنتظر من غار جبيلات يتجاوز الأرقام والإنتاج. إنه اختبار للقدرة على بناء اقتصاد منتِج ومتنوّع ومستقل، قادر على الصمود والتفاعل مع الأسواق لا التبعية لها، فالمنجم، بخاماته وبنيته وموقعه، يختصر معادلة السيادة الحديثة… من يمتلك موارده، يتحكّم في مساره.

هذه المعادلة أدركها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون منذ أن أعلن عن نيّته للمشاركة في انتخابات 2019، فكانت في صميم برنامجه الانتخابي آنذاك، وراح يمهّد لها الأجواء منذ توليه رئاسة البلاد، فمهمّة بعث مشروع استغلال منجم غار جبيلات لم تكمن صعوبتُها في الجغرافيا والامكانيات فقط، بل في الذهنيات وفي السياسات المنتهجة، وحتى في هشاشة الوضع الإقليمي والدولي.. فمجرّد التعبير عن حلم غار جبيلات، كانت الإرادات الفاشلة تفسّره بالهذيان السياسي.. غير أنّ ذكرى عيد الاستقلال تكشف أنّ حلم غار جبيلات أصبح واقعا بمئات الكيلومترات، يشقّ طريقه تماما كما فعلها حلم الاستقلال منذ أن قالها الشهيد العربي بن مهيدي “ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”، وكذلك فعل الرئيس عبد المجيد تبون فألقى بالمشروع إلى الميدان، وها هو قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلم غار جبيلات..

وليد بحيري

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى