الجزائر تؤكد فصل الخطاب في تعاملها مع باريس

يبدو أن فرنسا لم تعد تدرك تمامًا ما الذي يتعيّن عليها فعله دبلوماسيًا مع الجزائر، بعد أن فوجئت بالرد الجزائري الحازم. ففي خطوة سياسية متعدّدة الأبعاد، اختل توازن الموقف الفرنسي تجاه اتفاق 2013 المتعلّق بالإعفاء المتبادل من التأشيرات لحاملي الجوازات الدبلوماسية وجوازات السفر لمهمة. وبينما اختارت باريس تعليق الاتفاق، في مناورة دبلوماسية متردّدة تركت مجالًا للتراجع، بادرت الجزائر إلى نقضه نهائيًا، جملةً وتفصيلًا.
معركة المفاهيم بين الجزائر وفرنسا
قراءة متأنية لما يحدث تكشف أن الخلاف لم يكن فقط حول مضمون الاتفاق، بل حول تعريف الموقف ذاته.
فرنسا استخدمت مصطلح “تعليق” (suspension)، وهو إجراء مؤقت لا يُسقط الاتفاق قانونيًا، بل يُبقيه حيًا في أرشيف العلاقات الثنائية في انتظار تحوّل في طبيعة العلاقات. في المقابل، ردّت الجزائر بلغة حازمة مستخدمة مصطلح “نقض” (dénonciation)، الذي يعني الإنهاء القطعي والنهائي للاتفاق وفق الإجراءات القانونية المنصوص عليها في المعاهدات الدولية.
هذا الفارق ليس مجرد اختلاف لغوي، بل يعكس تباينًا جذريًا في الرؤية السياسية والدبلوماسية؛ فالجزائر الجديدة لم تعد تقبل إدارة علاقاتها بمنطق التردّد، بل تتحرّك وفق مبدأ الحسم، وترفض أيّ مساس بالسيادة الوطنية التي لا تقبل المساومة.
ماذا يعني “النقض” قانونيًا؟
في الأعراف الدبلوماسية، “التعليق” هو إجراء أحادي يجمّد تنفيذ الاتفاق دون إلغائه، بينما “النقض” هو إخطار رسمي بإنهاء المعاهدة، وفقًا لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات (1969).
الجزائر، إذًا، لم تتبنَّ موقفًا دفاعيًا، بل بادرت بخطوة هجومية أغلقت الباب أمام أي محاولة فرنسية لتسويق فكرة أن الأمور لا تزال تحت السيطرة.
رسالة الجزائر: لا امتيازات بلا توازن
بإسقاطها لهذا الاتفاق، وجّهت الجزائر رسالة واضحة إلى باريس: “زمن الامتيازات من طرف واحد قد انتهى”. فلا امتياز دبلوماسي دون احترام متبادل، ولا شراكة بلا توازن في المصالح.
ولم يكن القرار رمزيًا فحسب، بل رافقته خطوة عملية تمثّلت في مراجعة وضعية الأملاك العقارية التي كانت السفارة الفرنسية تستغلها بالمجان، وإعادة النظر في العقود المبرمة مع ديوان الترقية والتسيير العقاري، في نهج شامل لإعادة ضبط قواعد العلاقة الدبلوماسية.
الموقف الفرنسي: صمت ثقيل أم إعادة حسابات؟
حتى الآن، يغيب الرد الرسمي الفرنسي، لكن المؤشرات القادمة من باريس توحي بارتباك واضح في الأوساط الدبلوماسية. فرنسا اعتادت على حوار مع الجزائر تحكمه اعتبارات تاريخية واستراتيجية، لكنه لم يكن دومًا متكافئًا. أما اليوم، فهي أمام خطاب جزائري جديد، أكثر حزمًا، مبني على منطق السيادة الكاملة.
مهدي الباز
