أحمد ميزاب: انسحاب فاغنر يمنح الجزائر فرصة استراتيجية لإعادة ضبط الإيقاع الأمني في منطقة الساحل
زكرياء حبيبي

عادت منطقة الساحل لتتصدر عناوين الأخبار الدولية بعد إعلان انسحاب شركة فاغنر العسكرية الروسية، التي تعمل في مالي منذ سنوات دعماً للمجلس العسكري في باماكو. ولفهم هذا التحول بشكل أفضل، نعيد نشر حوار أجرته “الجزائر 54” مع الخبير الأمني الجزائري أحمد ميزاب.
وبخصوص هذا التطور الحاصل، يعتبر الدكتور أحمد ميزاب أن الحديث عن انسحاب فاغنر من مالي لا يمكن عزله عن تطورات أوسع في هندسة الحضور الروسي في إفريقيا. وأن ما جرى ليس مجرد مغادرة وحدات ميدانية، بل هو نهاية طور من العمليات غير النظامية، وبداية نمط جديد للنفوذ الروسي، عبر الدولة لا عبر الوكلاء.
وتابع يقول، أن فاغنر كانت أداة غير رسمية لخلق توازنات في ساحات هشّة، لكنها أصبحت عبئًا سياسيًا بعد مقتل بريغوجين وتحوّل المجموعة إلى ذراع شبه حكومي ضمن مؤسسة “أفريك” التابعة لوزارة الدفاع الروسية. ومالي كانت أحد المختبرات الأولى لهذا التحوّل.
وشدّد المتحدث، أن الانسحاب بهذا الشكل، وبهذه السرعة، دون إعلان تدريجي أو صيغة تفاهم مشتركة مع المجلس العسكري المالي، يحمل مؤشرات على توتر حقيقي، إما لأسباب مالية (عقود متأخرة، مطالب جديدة)، أو استخباراتية (خلاف حول الأهداف أو طريقة العمل)، أو سياسية (تحوّل الموقف الروسي من دعم مفتوح إلى ضغط من أجل تسوية).
بالإضافة إلى تطورات المشهد في الساحة الأوكرانية مما يستدعي اتخاذ جملة من الترتيبات وإعادة ترتيب أوراق.
وأوضح ميزاب قائلا: نحن أمام إعادة تموضع، لا انسحاب شامل من المشهد.
وأضاف الخبير الأمني أحمد ميزاب أن هذا الانسحاب يُمثّل صدمة مزدوجة، من ناحية إنه صدمة أمنية لأن وحدات فاغنر كانت تمثل خط الحماية الأولى ضد هجمات الجماعات الإرهابية أنصار الإسلام والمسلمين وداعش في منطقة الساحل، وكانت تمسك بمفاتيح أساسية في الاستخبارات التكتيكية والعمليات الجوية. ومن ناحية أخرى صدمة سياسية لأن المجلس العسكري بنى شرعيته على تقويض العلاقة مع فرنسا والتحالف مع روسيا، والآن يفقد هذه الورقة دون بديل واضح.
وأشار ذات الخبير، إلى أن الحديث عن سقوط النظام مبالغ فيه في الأمد القصير. وأن الجيش لا يزال ممسكًا بمفاصل الدولة، ولا توجد معارضة داخلية منظمة قادرة على استثمار الفراغ.
معتبرا أن الخطر الحقيقي هو داخلي بحت “الصراع بين أجنحة الحكم، وخصوصًا في ظل غياب مشروع سياسي جامع، مع تصاعد الضغوط الاقتصادية، واستمرار الحصار الإقليمي، وانسداد مسار المرحلة الانتقالية”.
واستطرد يقول “روسيا تدفع نحو إعادة التوازن، لا إسقاط النظام”. و”تريد شريكًا يمكن ضبطه ضمن أجندة المصالح، لا جهازًا عسكريًا ينزلق نحو المغامرة الفردية أو الانفجار الداخلي”.
أما عن مكانة الجزائر المحورية في معادلة الساحل الأمنية، بحكم موقعها الجغرافي وقدراتها العسكرية، وكذلك علاقاتها المتوازنة مع أطراف متعددة. وسياستها القائمة على الاستقلالية الإستراتيجية التي تُعتبر حاجزًا ضد التدخلات العسكرية الأجنبية، قال أحمد ميزاب أن الجزائر مطالبة اليوم بالخروج من منطق المتابعة إلى منطق التأثير المباشر. مؤكدا أن الفراغ الناجم عن انسحاب فاغنر، واهتزاز الموقف الفرنسي، وتذبذب المقاربة الأمريكية، يمنح الجزائر فرصة إستراتيجية لإعادة ضبط الإيقاع الأمني في الساحل وفق ثلاثة محاور:
1-أمنيًا
عبر رفع وتيرة التعاون الثنائي مع جيوش المنطقة، خصوصًا النيجر وبوركينا ومالي، من خلال مبادرات تكوين وتبادل معلومات وتنفيذ عمليات تنسيق حدودي دون التدخل المباشر، ولكن ضمن مقاربة التأمين الوقائي المتقدم
2- سياسيًا
عبر استعادة زمام المبادرة الدبلوماسية، بالعودة إلى دور الضامن لتسوية النزاعات، وخاصة تحريك اتفاق الجزائر والقيام بتحالف وساطة بين أطراف الداخل وأطراف الخارج (روسيا، الصين، تركيا، الخليج) لمنع الانفجار الشامل.
3- استراتيجيًا
بطرح رؤية شمال إفريقية للأمن الساحلي وإعادة بعث آلية دول الجوار +1 (الجزائر-النيجر-مالي-موريتانيا + التشاد) بمباركة إفريقية. فالجزائر تملك القدرة، لكنها مطالبة باستخدام أدوات جديدة، أكثر مرونة، وأكثر شراكة مع الفواعل المحلية في الساحل، ومع الجاليات والنخب المحلية.
وفي رده عن سؤال عما إذا كان انسحاب “فاغنر” يفتح الطريق لعودة الفرقاء في مالي إلى طاولة الحوار وبالتالي العودة إلى اتفاقيات الجزائر؟ أجاب أحمد ميزاب: نعم، ولكن بشروط.
وأشار إلى أن انسحاب فاغنر يُضعف منطق الحسم العسكري الذي تبنّاه المجلس العسكري، ويفرض عليه إعادة التفكير في أدوات السيطرة، خصوصًا في الشمال مع الحركات الأزوادية. وهذا قد يفتح نافذة أمام العودة إلى الحل السياسي.
وأوضح يقول: لكن لا عودة إلى اتفاق الجزائر دون مراجعة طريقة تنفيذ بنوده وإشراك المكوّن العربي والطوارقي بشكل متكافئ، وكذا رفع الحظر عن بعض القادة السابقين للحركات الموقعة، وتقديم ضمانات أممية وإقليمية جديدة.
وخلص قائلا: الكرة الآن في ملعب الجزائر لإعادة ترتيب مكونات الحوار، وفرض سقف زمني، وإقناع موسكو بدعم المسار بدل الرهان على مسار موازٍ. وأن التحولات الحالية تخلق فرصة لا تُعوض، لكنها تحتاج إلى تحرك دبلوماسي استباقي، وضغط سياسي ذكي، وقوة إقناع تقوم على الحياد النشط، لا على الحياد وفقط.
لقراءة الحوار من الأصل: انقر هنا
